مروءة المرأة: كمال النقص

تنحاز كثير من القصص والمقولات في التراث العربي ضد المرأة، فتفترض فيها الشر والحيلة أحيانًا، أو السفه وسوء التدبير ونحو ذلك في أحيان أخرى.

حتى حين يتعلق الأمر بالخصال رفيعة القدر التي تُطلب في المرأة والرجل على السواء يظهر هذا التحيز.

(المروءة) خصلة إنسانية حميدة لا تختص برجل أو امرأة. فالجوهري يقول في معجمه: (المروءة: الإنسانية) فهي في أبسط تعريفاتها التحلّي بصفات الكمال الإنساني.

لابن المرزبان كتاب عنوانه: (المروءة)، فيه أقوال كثيرة تؤكد على أن العقل والكرم والتحبب إلى الناس ونقاء الثياب وقلة الخلاف واجتناب الريب… وكل الصفات التي تُجمّل الرجل وتصونه تُعدّ من المروءة. بين هذه المقولات مقولة واحدة تتعلق بالمرأة وتجعل مروءتها كامنة في مفارقتها للكمال الإنساني: “قيلَ لأبي ثفال المري وكانَ ذا عقلٍ ومُروءة ما مروءة المرأةِ؟ قال لُزُومُهَا بيتها، وَاتهَامُهَا رأْيهَا، وطَوَاعِيتُها لزَوْجِهَا، وقِلّةُ كلَامِهَا”

التحيز ضد المرأة ظاهر في هذا النص، بدءًا بتضييق الخناق عليها بفرض (لزوم البيت وطاعة الزوج وقلة الكلام) دون ضابط. وانتهاءً بالتمادي في تسفيه رأيها إلى حد مطالبتها بأن تسفّه عقلها من تلقاء نفسها: (اتهامها رأيها).

كيف تتفق صفات الكمال الإنساني مع تسفيه المرء لذاته واتهامه رأيه؟ مع أن (الاستخفاف بالناس) من خوارم المروءة لكن حين تختص العبارة بالمرأة يُصبح الاستخفاف بالنفس مطلبًا محمودًا، وهذا يكشف عن ذكورية المقاييس التي يُفرّق بها الخطاب الثقافي بين المرأة والرجل حتى في الخصلة التي ينبغي أن يتصفا بها معًا، فالمروءة (فعولة) من (امرئ وامرأة) أيّ من الجنسين. لكنّ الأقوال الواردة في الكتاب تطلب مُقاربة الكمال الإنساني في الرجل، فقط، وحين يتعلق الأمر بالمرأة يصبح كمال النقص مطلبًا لتمام مروءتها؛ بسلبها حُرية الحركة، ثم الثقة، ثمّ الاختيار، وأخيرًا سلب حقّها في الكلام.

نُشِرَ في صحيفة مكة:

https://makkahnewspaper.com/article/4393

١٤٤٠ هـ

١٤٤٠ هـ

– في مرحلة من مراحل المضاربة بأحلامي ضد عبث الحياة، فقدتها كلها وأفلست… لا أستطيع تحديد لحظة الإفلاس بدقة، كان إفلاسًا تدريجيًا. فقدتُ فيه رأسمالي من الحلم والأمل على دفعات، في جولات لعب كثيرة. ولكنّي رغم هذا الإفلاس ما زلتُ أقف على مراحل العمر الانتقالية وأنا أجاهد كي لا أكشف لكم جيوبي المفرغة، فتخافون من نفس المصير… وإن فشل جهادي وأشهرت في وجوهكم سجلات إفلاسي فهذا لا يعني أنّي أرجو لكم نفس المصير، أو أتنبأ به… ربما كنت في اللاوعي أقول: اعينوني على شحّ الحياة، اقرضوني قبسًا من نور أحلامكم أرى فيه الطريق، فلا أسقط، أو كي أسقط على أرض مستوية على الأقل، لا في هوّة سحيقة.

– أيها الحالمون المنحازون إلى القضايا التي نظنّها خاسرة، أو الخاسرة بالفعل وحكم اليقين. أي قوّة هذه التي تملكون، أيّ صبر وأمل يجعلكم تزرعون في أراضي الجدب، وتنادون العصافير كي تورق أعشاشها على أغصان الأشجار الميتة المجرّدة من أوراقها وثمارها؟

قد لا تغيّر أحلامكم شيئًا في هذا العالم، تسطع آمالكم كل يوم كسطوع الشمس الاعتيادي الذي لا يغيّر شيئًا في رتابة الأيام… لكنكم تعرفون أن امتناع الشمس عن السطوع سيغيّر كل شيء، سيميت كل شيء…

– في توقد عمر العشرينات، ترجمتُ سخطي إلى فعل، ترجمته رغم خيانة اللغة وشحّ المفردات. وكرهتُ أولئك الكبار الذين كانوا يناصحوني ويقولون: هذا تهوّر الشباب، ستكبرين غدًا وتعرفين الحكمة والتعقل… أقسمتُ أيامها أن أتنبّه إذا كبرت، فلا أترجم مفردات الخوف والخنوع بكلمتي حكمة وتعقل… يئست نعم، لكن لا ينبغي لي أن أدعو الحالمين إلى مائدة مأساتي وأسمّم أحلامهم باليأس.

– يا أنبياء هذا الزمان، أي مُعجزات آتاكم الله؟ تدخل قلوبكم في عتمة العالم وتخرج بيضاء من غير سوء. ما تلك بيمينك يا صاحب اليمين؟ يقول: هذه عصا أحلامي أتوكأ عليها وأهش بها على ألمي… وإن داهمتني ثعابين الظلم وكادت تسمم إيماني، تنقلب عصا أحلامي حيّة تسعى وتقاوم… وإن فشلت لا أخاف، ستعود عصاي إلى كرّتها الأولى، أتوكأ عليها وأهش بها على ألمي ولي فيها مآرب أخرى… ليس من بينها أن أجعلها حطبا.

– أكتبُ هذا المنشور الآن وأنا لستُ مقتنعة بما ورد فيه، ورغم هذا لا أعتبر نفسي قد خالفت قناعاتي، لأن لي ولكم وللعلم والمنطق قناعة تقول أن الإنسان غير قادر على الرؤية في الظلام، لا بد أن ينعكس الضوء على العين كي ترى، لا بد أنكم ترون بوضوح، ورؤيتكم أفضل من رؤيتي… الضوء يكشف ما تخبئه العتمة، وأنتم تقدسّون النار وتعيشون في الضوء، وأنا من أتباع الرماد… فأيهما أكثر نفعًا ورسوخًا؟ النار أم الرماد؟

ملاحظة:

– أستثنى من كلامي أعلاه النباتيين وجماعة (سافر فلست شجرة) 😏🏃🏽‍♀

جدب

كانت مواسم الحصاد قد انقضت، لم يبقَ منها في ذاكرة المرأة التي عاصرتها لعقود وعهود إلا أرض جرداء تعبرها الأعوام الحافية دون أن تدمى فقد اعتراها اليباس. كان موسم الحصاد قد انقضى؛ إذ شحّت الأمطار أولاً، ومات الغناء ثانياً، والطير الذي انشغلوا بحماية زرعهم منه عاث بالزرع أخيراً، ولم يبقََ من ذاك الزرع إلا اخضرار الأيام القديمة في الذاكرة. صوت السواقي أمْ السعال؟ أغاني الحصاد أم أدعية زيارة المريض؟ خشخشة السنابل أم وهن العظام؟ كلما توغلّتْ امرأة الحقول في سواد العُمر صار الماضي أكثر اخضراراً في عقلها وعلى لسانها. وكلما عاث فيها صخب الشيب، يسوَدّ غيم الذكريات فتزداد انهماراً.

في هذا العالم الذي ينكر وجودها ويرتهن لنقرة زر بأيدي الصغار، ويختصر نفسه في شاشة هاتف ذكي، ويبدو مذعوراً على شاشات البلازما المسطحة الكبيرة التي تنقل بشاعات العالم بشكلٍ أعلى دقة وأكثر توسعاً… في هذا العالم يبدو أنّ كل شيء يرفضها أو يستعصي عليها في أحسن الأحوال. فتنزوي خلف سنينها الطويلة وحكاياتها المكررة.

حين تكون صحتها جيّدة تحيكُ من بقايا الأقمشة أغطية لكل شيء: للمخدات، لألعاب الصغار، لهاتفها النقّال الذي لا تعرف منه إلا زر السماعة الخضراء… يبدو أن اتساع العالم وتناميه يُشعرها بالضياع، فتنهمك في حياكة الأغطية التي تمنح الأشياء حيزاً من الدفء والسكن والحميمية. ولكي تغلب الوقت الذي ركض بها حتى أوصلها إلى هذا العُمر ثمّ صار بطيئاً مُثقلاً بالكاد يمر، كانت تنقض ما حاكته أحياناً لتعيد حياكته من جديد…

أمّا حين تنتكس صحتها إذعانًا لمتطلبات الشيخوخة، كانت تنام وتستيقظ نشوى بأحلامها التي تحيكها يد الذكريات، فتخضّر في مناماتها الجبال، وأغاني الرعيان تحتلّ المدى، والمنجل يقتطع نهايات الزرع كي يستنبت البدايات.

ورقو الأصفر شهر أيلول

مرحبًا يا أنا

لم يتغير وجهك منذ أن عرفتك، ولا تغيّرت أكثر طباعك… مازلتِ تسقطين وتضحكين قبل أن يضحك عليك الآخرون، ما زلتِ تغرقين في ذاتك وتتمسكين بعنادك كلما امتدت إليك يدٌ تخاف عليك من ملاقاة حتفك غرقًا، ما زلتِ تمشين بخطواتك السريعة والمتقاربة وتصطدمين بالأبواب المواربة والحواف، وما زلتِ تخافين من الحواف فتبعدين الأكواب والصحون عن حافة الطاولة، والعطور عن حافة الرفّ، والكتب عن حافة المكتب…الخ. فالحافّة هي الطريق الممهد للسقوط. ورغم خوفك من السقوط الذي تتحالف معه الحافة، تسأمين دائمًا، تسأمين الصمت والجمود والبقاء أمام المنظر ذاته، فتحتجين على موات الأمكنة الآمنة بالجلوس على الحواف، وهجاء السقوط…

مرحبا يا أنا

ما زالت بلادتك المشهودة في الرياضيات والعلوم كما هي، لم يتغيّر شيء، وبرغم ارتحالك دراسيًا بعيدًا عن هذه التخصصات الجامدة (البحتة) إلا أنّها ما زالت تفرض قواعدها ونتائجها على حياتك، أو ما زال ذهنك يستدعي بعض مُعطياتها التي تذكرين وترين فيها انعكاسًا لمساراتك.

نسيت اسم ذلك الخط الأفقي الذي كانت ترسمه معلمة الرياضيات على السبورة ثم تحاول إيهامنا بإن للخطوط الأفقية اتّجاهين، في منتصف الخط تضع الرقم (صفر) وعلى يمينه مجموعة الأعداد الموجبة، وعلى يساره مجموعة الأعداد السالبة… هل كان اسمها مجموعة الأعداد الحقيقية أو الطبيعية أو الصحيحة أو… أو…أو… نسيت، كما أنسى الأسماء دائمًا، لكنّي أتذكر الصفر المتمركز في المنتصف، ولديّ قناعة بتشابه الأماكن الوسط مع هذا الصفر الذي يتربّع بين الأعداد السالبة والموجبة. وأنا أكره الأصفار ، كلنا نكره الأصفار، نشتم بعضنا قائلين: (أنت صفر على الشمال) نحكي حسراتنا واصفين: (عاد صفر اليدين) نصف مكابداتنا والصعاب متهولين: (ابتدأ من الصفر) ولذا فأنا لا أستقرّ في المنطقة الصفر مهما حاولت، أرتحلُ دائمًا عن فراغ هذه المنطقة الصفر، مرة أجد الطريق نحو الأعداد الموجبة فأصعد عليها رقمًا رقمًا، ومرّات تنزلق قدمي على خط الأعداد الأفقي فأهوي إلى السالب، تصطفيني الخسارات..

وبحكم بلادتي في العلوم أيضا أتساءل: ما اسم ذاك المصطلح العلمي الذي يصف مكابدات الكائنات من أجل البقاء؟ انتخاب طبيعي، اصطفاء طبيعي، تطوّر جينات… لا يهمّ، فالأسامي كلام، وشو خصّ الكلام… أمّا ما يخصني من هذا الكلام فهو اعتقادي بأنّ بعض جيناتي غلب بعض، بفعل عوامل كثيرة، أغلبها خارجية، كالصوت العالي، والتحريض، وسعار الإدانات، وصلابة القضبان والحديد… الخ الخ.

كل هذا أدّى إلى طفرة وراثية بداخلي، مكّنت قدراتي الدفاعية من التطور والبقاء، طفرة أدّت إلى ظهور أنياب لمخاوفي، كفيلة بنهش الأمل. طفرة أدّت إلى فقد يقيني لبصره بعد أن عاش في العتمة طويلًا طويلًا حتى تآلف مع العمى. طفرة أنبتت للصمت عشرين لسانًا أعلّق بها على ما يحدث في هذا العالم، وبدّدت الصوت. لستُ حزينة على هذه التطوّرات. على العكس من ذلك تمامًا، هذه الطفرات ستمكنني من البقاء، ولذا فأنا راضية بهذه الصفات النافعة، لعلّها تُنقذني من ضياعي الحالي الذي لم أستشعر في حياتي ضياعًا مثله، مذعورة أقف على عتبة عامي الجديد، وكأن كل حلم حلمته، وكل مبدأ آمنت به، وكل كلمة أمّنتها على حمولات قلبي من الرفض والغضب، ضاعت منّي، أو انقلبت ضدّي… وكأني أفتح عيني اليوم بشكل مفاجئ على عالم جديد، بلغة جديدة، بمبادئ تخضع لصيانة دورية وتحديثات تقلبها رأسًا على عقب، بذاكرة يجري بترها كل لحظة، وبدليل استخدام مكتوب بلغة لا أجيدها، وخارطة بمسارات لا أعرفها، وعليّ رغم الضياع أن أستمر في الطريق.

مرحبا يا أنا.

مازلتِ كما عرفتك. عثرتك أكبر من الطريق، طريقك منسوخ من خارطة الضياع، تسأمين المتاهة فتستريحين في العتمة. أحيانًا تختارين بكل إدراكك الجمرة على التمرة ثمّ تُصدمين إذا اكتوى لسانك، مازلتِ مُبصرة تتعامى، حذاؤك في يدك وقدمك لنتوءات الطريق، تركتِ حقائبك ليجلس عليها المسافرون الذين فاضوا عن سعة القطار، واختصرتِ أمتعتك في عراء كراسي الانتظار المركونة في المحطات… حتى سكنتك المحطة لا وجهة الوصول.

مرحبا يا أنا.

أعرف أنّك كما عرفتك دائمًا، تعيشين بالكلام وفي الكلام، قد تنقذك كلمة، وكلمة أخرى قد تهوي بك في قاع الخوف بلا قرار. فلا تفزعنّك كلماتي هذه. فما زال عندك خنادق تتمترسين خلفها، ومخارج طوارئ كثيرة. ما زال في القلب أصدقاء يكنسون العتمة ويفتحون النوافذ للهواء والشمس والحريّة. ما زال في المحيط أحبّة لا يرون منكِ إلا أجمل ما فيك، فاحتالي بضياء رؤاهم على عتمة رؤاك. ما زال لقلبك أولياء تتوسّلين بهم للحياة أن تدوم ما داموا معك، كي تغلبي بكثرتهم فيك وكثرتك بهم شجاعة الوقت وجرأته على ارتكاب الفظاعات، ما زال عندك عمل ينتزعك من فراشك كل صباح، ويهمس في أذنك: ليس بوسعك إنقاذ هذا العالم المنكوب، لذا ابحثي عن خلاصك وحدك، جاهدي كي لا تتحولي إلى صورة عن ما تكرهين، تحسسي قلبك كل يوم كي تتأكّدي أنّه لم يتحجر، فيصير جدارًا. وأن لسانك لم يزدد حدّة، فيصير نصلًا. وأن عينيك لم تتآلف مع عتمة العالم فتعمى عن الحزانى والمتعبين والمظلومين، تأكّدي أن أذنيك لم يعطلهما الضجيج وما زال بوسعمها تمييز الأنين…

لكن كيف تتأكدين من صدق حاستك التي تتحسسين بها نفسك؟ فالسيئون والطغاة لا يدركون ماهم عليه. وقد تكونين منهم… لكن على أي حال تذكري أنّ هذه حربك الأبدية فلا تنطفئي تحت رمادها.

في العُمر عمر يكفي لأن تعيشي أعمارًا قادمة في نفوس الطالبات، وفي المكان مكان يكفي لأن تبددي خوفك وضياعك وأحزانك بإتّباع هدى قلب أمّك، وبرفع قامتك كي تلمسي سقف توقعات أبيك، وبإطلاق حواسّك لاصطياد أماني شقيقاتك.

٣٤ سنة

نعم ٣٤ سنة.

لن أُطفئ الشموع، لكنّي سأطفئ خوف قلبي من العُمر بقراءة المقاطع التي أحبّها من كتاب (البداية والنهاية) في وصف بدء الخلق، عرش الله أولًا، ثمّ اللوح المحفوظ…

“أينَ كانَ ربّنا قبل أن يخلق السمٰوات والأرض؟ كان في عَمَاء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثمّ خلق عرشه على الماء”

كان العَمَاء قبلي إذن، كان العَماء قبل ملايين الملايين ممن عاشوا قبلي أيضا، وسأعود وسنعود جميعًا بعد هذا التحديق الطويل المريع الذي نسميه (حياة) جزءًا من ذاك العماء الأزلي والتليد.

أمّا اللوح المحفوظ، فهو “لوح من درّة بيضاء، طوله مابين السماء والأرض، وعرضه مابين المشرق والمغرب…مساحته مسيرة خمسمائة عام”

فما السطر الذي يخصني على هذا الاتساع؟ سطر؟ لا أظن، ربما لي جملة واحدة لا تبلغ سطرًا، وقد أكون أقل من أن أحظى بجملة، ربما ليس لي إلا كلمة تائهة بين عدد لا نهائي من الكلمات. أو حرف، حرف بلا معنى في ذاته، صوت نُطِق مرة واحدة وضاع في المدى الكوني الهائل… كلما تصورت اللوح المحفوظ أدرك أني لا شيء في هذا الشيء الذي يبدو بلا بداية ولانهاية، والأهم أن هذا العالم عندي لا شيء قبل بدايتي ونهايتي، ومع هذا فأنا أكابد في هذا العالم كما لو أنني ملء اتساعه، كما لو أنني سأكون فيه ويكون معي بشكل لا نهائي.

فليكن عُمري إذن بوهج ابتسامة خاطفة وقِصر زمنها، المهم أني عشت، أو أردتُ أن أعيش… وما زلتُ أعيش.

الحكي منجاة

uploads1507052231606-IMG_6352

حكت شهرزاد لتغلب بالسرد شهوة القتل، فكانت الحكايات تمد في عمرها ليلةً بعد ليلة، وكان أبطال قصصها مثلها يلوذون بالحكاية من أجل النجاة التي كانت سمة أساسية لهذه الحكايات الألف، إلا أنها ليست غاية هذه الحكايات وحدها، بل تكاد أن تكون غاية كل الحكايات التي تستدعيها الشعوب في أوقات محنها وتلتصق بوجدانها. فحكاية سيف بن ذي يزن الجاهلية عادت وتشعبت في فترة الصراع الذي خلفته الحروب الصليبية بين أثيوبيا النصرانية والممالك المسلمة في أفريقيا، فعادت صورة البطل العربي بشكل أسطوري، ليهزم الأحباش من جديد، وكانت مهمته الأولى هي استعادة (كتاب النيل) الذي استولوا عليه فحجزوا به النيل عن مصر. فالحكاية هُنا مسخرة لنجاة الهوية من الطمس، ونجاة المد الإسلامي من الحصار. بعيدا عن السير الشعبية القابلة للزيادة والاستعادة، تظهر غاية النجاة عبر الحكاية في عدد من الروايات، ففي (كتاب الضحك والنسيان) لكونديرا كانت السلطة القمعية تعد بمستقبل أفضل لكن أبطال الرواية المنفيين كانوا يفكرون في الماضي. (تامينا) لا تفعل شيئا إلا محاولة استعادة رسائلها ومذكراتها. (ميريك) يقول: «نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان» في حرافيش نجيب محفوظ أيضا ينجو أبطاله على مدى عشرة أجيال من خلال حكاية واحدة تنتشلهم من التهميش والظلم وجبروت السلطة، وهي حكاية جدهم الأول (عاشور) المعروف بـ (الناجي).محليًا؛ في عام محنة جدة كتب محمد صادق دياب (مقام حجاز) لعل مدينته تنجو عبر حكاياتها من الفساد والغرق، فامتد نسل أبطاله (أسرة دحمان) من 1513م حتى 2011م. انتقموا من ظلم الولاة، وذادوا عن مدينتهم من الغزاة البرتغاليين، وحاولوا حماية المظلومين، واستمروا في التقاطع مع الأحداث التاريخية التي ألمت بالمدينة، حتى عام 2011م إذ عادت روح الجد (محسن) شهيد الحصار البرتغالي والتقت بأحفاده. فوجد كل شيء قد تبدل. يتساءل: أين جدة؟ ويأتي الجواب: «لو كنت تسمع لقلت لك: مواسم المطر، ومواليد برج الجدب يموتون في موسم المطر». وعودة إلى الليلة الأولى من الليالي الألف، تحكي شهرزاد عن عفريت غاضب أقسم على قتل تاجر، فظهر ثلاثة أشخاص قايضوا حياة التاجر بثلاث حكايات عجيبة، افتتن بها العفريت فمنح التاجر حياته. وكل حكاية من هذه الحكايات الثلاث تدور حول أشخاص مسحورين مسختهم قوة شريرة إلى حيوانات، وبواسطة الحكاية استعادوا إنسانيتهم وقلبوا السحر على الساحر. فكانت الحكاية عودة للحياة، وعودة للإنسانية.

نُشر في عكاظ https://www.okaz.com.sa/article/1071759

 

شجر النجاة

uploads1478908184769-IMG_1869

من قصص الطفولة التي كانت ترويها لي جدتي قصة (خاش باش) البنت الفاتنة التي لا تـشبه اسمها والتي كادت لها زوجة أبيها، وعانت من ظلم أخواتها واكتفى والدها بأن هرّبها من البيت لينصرها على زوجته التي طلبت قتلها. في رحلة (خاش باش) الطويلة نحو النجاة تأوي إلى نخلة لتهرب من الذئب وتخاطب النخلة قائلة: يانخلة أمي وأبي انزلي انزلي..
فتصير النخلة في مستوى قامتها، وترتقي عليها وتقول: يانخلة أمي وأبي اطلعي اطلعي…
فتعود النخلة لطولها الشاهق فتصير البنت في مأمنٍ من الذئب.

اتذكر أيام الثانوية ربما، نشرت صحيفة الحياة ملفًا خاصًا عن القصص الشعبية في البلاد العربية، وصادفت مشهدًا قريبًا من هذا المشهد في قصة أردنية، بنت تهرب إلى شجرة وتخاطبها بجملة مشابهة: انزلي… فتنزل… واصعدي فتصعد.

والآن أقرأ في أولى أساطير عبدالكريم الجهيمان الشعبية، في الأسطورة تهرب (جوزاء) بأمر أخيها (خضير) من حصانه الذي يعشقها، لا يقتل الأخ حصانه ليحمي أخته لأنه حصان أصيل معروف بالسبق، وكل ما يبذله لحماية أخته هو منحها ثلاثة أيام تهرب فيها وتبتعد بأقصى ما يمكنها قبل أن يطلق حصانه المهتاج الذي عجز عن تهدئته. يلاحق الحصان جوزاء ويقترب منها فتأوي مع جاريتها إلى شجرة. تخاطب الشجرة قائلة: ياشجيرة البر تقيصري تقيصري وأمك القصيرة… فصارت الشجرة تهبط إلى الأرض قليلًا قليلًا حتى لامست أغضانها التراب فقذفت جوزاء بحوائجها على ظهر الشجرة وجلست مع جاريتها أعلاها وقالت: ياشجيرة البر تطيولي تطيولي وأمك الطويلة.
فصارت الشجرة ترتفع وترتفع حتى جعلتهما في مأمنٍ من الخطر.

بغض النظر عن سُبل النجاة الأخرى في هذه القصص، اللجوء للسلطة أو الاحتماء بسطوة الجمال والفتنة أو الهرب مع العبيد وارتداء جلودهم لستر الجمال الذي كان منذ البدء سببًا في الأزمة كما قد يكون في الختام بابًا للنجاة… من بين كل هذه الطرق يظل هذا التفصيل الهامشي، الحميمي، والمكرر مع الشجر تفصيل آسر ويغري بتتبعه في القص الشعبي… فالشجرة التي كانت سببًا في الهبوط من الجنة تصير في الأرض مطواعةً للنساء وحاميةً لهن تنزل بفعل كلمة وتصعد بفعل الكلمة أيضا.

عن صِيَغ الجمع والاعتياد الأعمى

 

ترعبني صيغة الجمع في مقابل الواحد؛ كالحالات في مقابل الطبيب، جمع الطلاب في مقابل الأستاذ، جموع العملاء والمستفيدين في مقابل الموظف، الشعب في مقابل الحاكم… الخ

وسم الجموع بصفتها في مقابل وسم الفرد بوظيفته يلغي الإنسان الفرد في مقابل تغليب الإنسان النمط أو الإنسان القالب، فينسى الطبيب أنه يتعامل مع إنسان يتألم ويتذكر أنه يتعامل مع حالة، ينسى المعلم أنه يتعامل مع طالب يفكر بشكل منفرد، يشعر، يُكسر، يخاف… يتذكر فقط أنه يتعامل مع مجموع رؤوس تجلس على المقاعد… الفكرة ذاتها تتكرر مع باقي الأدوار، فكرة إلغاء الشخص بكل الاتساع الهائل فيه لتغليب صفته الاعتبارية المؤقتة التي نتعامل معه من خلالها.

من هذا التكرار والتغليب يولد الاعتياد المخيف، الروتين الذي يُفقدنا الحس الخاص في التعامل مع الأمور. الاعتياد الذي يعني مرورك بالشيء ألف مرة و مروره عليك مرات لا تُحصى حتى تفقد ملكة الانتباه إليه وإدراك تفاصيله.

كتب ماركيز في كتابه (قصص ضائعة) مقالًا بعنوان (أبهة الموت) تتقاطع تفاصيله مع مخاوفي هذه. كتب عن جمود الروتين، ومأساة البيروقراطية في وكالة لدفن الموتى. بفعل الاعتياد والتعامل اليومي مع الموت يفقد الموت هيبته ويُعامل الموظفين الموتى وذويهم معاملة آلية باهتة.

يذهب ماركيز ليشهد مراسم حرق جثة صديقه، فيجد التوابيت المشتراة من عائلات الموتى لتضم جثامين أحبتهم قد صارت بلا جدوى بعد انتهاء مراسم الدفن، فتعمد الوكالة إلى بيعها من جديد لعائلات موتى آخرين. يصطدم ماركيز ومرافقوه بطابور الانتظار الطويل للجثث التي ستُحرق، وبعد طول الانتظار يقترح السائق: لماذا لا ترجعون غدًا وتحاولون أن تكونوا أول من يصل؟”

الموظف الوحيد في هذه الوكالة يُفسّر الأمر بتفسير خبّاز: “الفرن مشغول، والفرّان في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات”

يختم ماركيز مقاله بقصة بشعة عن امرأة أمريكية باعت كل ماتملك ليحظى زوجها بجنازة أكثر أبهة من إمكاناتها الطبيعية. كل ترتيبات الجنازة كانت تبدو مُحكَمة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد موظفي وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مدوّن في العقد، وهذا يعني دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن. وحين تُخبره الزوجة أنها انفقت كل شيء يُقدّم لها الموظف حلًا بصوته الهادئ: أرجو منكِ  أن تمنحينا تفويضًا لنشر قدمي الجثة.

وبالطبع لن تقبل الزوجة بهذا الخيار المروّع و وجدت المال بطريقتها ليُدفن زوجها كاملًا

والسؤال الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني هو: هل مازالت إنسانيتنا نحن الأحياء  مكتملة في مواجهة الروتين والاعتياد والبروقراطية؟ أم أنّ أجزاءً  منها تم نشرها واستئصالها لنتواءم مع الصيغ الأولية لعقود وجودنا؟ ولنلائم المقاسات المطلوبة. فيسهل دفننا في الحياة قبل الموت.

نُمُو

a40

في البدء كانت الورقة، بيضاء من غير سوء، متمددة أمام غواية الألوان وتخيلات الطفولة، يتلهف بياضها للخضرة والحمرة والزرقة والصفرة، شمس تشع في الزاوية، وطيور تصل إلى حدود الشمس، سماء حادة الزرقة عليها سحب بيضاء كحلوى المارشملو، تتعانق خضرة الأرض مع زرقة السماء، لا فاصل فيما بينهما، أشجار بجذوع ضخمة، وثمارها ناضجة ومحمرة، وعليها أعشاش عصافير لا تنهرها فزاعة ولا يطالها الجوع.

بفعل التقادم فرّت ألوان كثيرة من اللوحة، اضمحلّت السُحب أولًا، صارت دخانًا متكاثفًا يسيل الدموع، تواطأ الدخان مع نيران صديقة، فانسحبت الطيور من السماء ومات بعضها في مكانه، بفعل هذا الفزع الطارئ انطفأت عين الشمس المشرقة في زاوية الصفحة، صارت رمادًا… فشحبت زرقة السماء حزنًا عليها، وتوارى الأخضر من الأرض خجلًا من اقتحامه للمشهد الحزين… وبفعل هذه الانسحابات المتتالية، انمّحت الألوان كلها، عادت هذه المساحة إلى لون البدء، إلى البياض… لكنها لم تعد ورقة كسابق عهدها، صارت ضمادة، ضمادة في طريقها للنمو حتى تصير كفنًا…

تاريخ علم اللا لسانيات

-مدخل إلى اللّغويّات غير التطبيقية-

المقدمة:

يتعقب كاتب المقالات اللغة، ويركض كاتب التحقيقات الصحفية خلف الكلمات الملائمة، يراود الشاعر الاستعارات عن نفسها، ويتوكأ القاص على التراكيب الجيدة ليهش بها على النسيان. تجول الكلمات كل ليلة في المطابع وسط الحرس القديم، فيقصقص المحرر ذيولها لتتواءم مع ضيق المساحة، ويعرّيها الرقيب وينتهك عفتها أثناء استجوابها، لا يقف سوء الخاتمة هُنا، بل يتعدى هذا إلى تحنيط هذه الكلمات المبتورة على صحف يومية متعددة الاستخدامات، إذ يُمكن استخدامها كمصدر للخبر، أو سُفرة للطعام، أو ممسحة للمرايا حيث نجد الانعكاس الوحيد المطابق لنا.

***

التمهيد:

حكت لي أمي قصة شاب فاقد للسمع والنطق، كان يعيش في قريتها، ويملك عددًا كبيرًا من الأغنام، يخرج يرعاها بعيدًا عن القرية وقريبًا من مرتفعات جبلية تقطنها قبيلة أخرى. هناك كان يلتقي امرأة اسمها (شمسية) تكسب رزقها من الحياكة والبيع، تجلس إلى جواره في فضاء الرعي لتكمل حياكتها بينما يراقب أغنامه. لا أعرف بأي لغة تواصل هذا الشاب الأخرس مع (شمسية) التي يبدو أنها مدّت ظلالها في حياته، فوصل قلبه بها، فصارت كل شيء… ولأنه لا شيء في نظر أهله لم يحاول أحد منهم أن يقنع أهل (شمسية) بالموافقة على ارتباطه بها، ومن ثمّ حجبوها عنه، وما احتجب… كان يمضي كل يوم إلى جبال قبيلتها، لا يعبأ بتخويف أهله ولا بتهديد أهلها، لم يكن يسمع كلمات التهديد أصلًا. ظلّ يسلك طريقه حيث تكون رغم وعيد أهلها بقتله، وحين تزوجت حبيبته رجلًا آخر وأيقن بيأسه داهمته الأمراض حتى مات في شبابه.

كنت أفكر وأنا أنصت للحكاية في عذوبة اسم (شمسية)، فكرتُ أيضًا في اللغة التي تواصلا بها وفي الكلام الذي وصل بين قلب الشاب وقلبها… لكن ماشغل تفكيري بشكلٍ كبير هو الكلام الذي كان يحتشد داخله ومات دون أن ينطقه، مات مسمومًا به.

***

الفصل الأول:

في كتاب رولان بارت (نقد وحقيقة) قرأت التالي: “يقول الجغرافي بارون: إن اللغة في قبائل “البابو” فقيرة، ولكل قبيلة لغتها ومفرداتها التي تميل إلى الفقر من غير توقف، لأن القوم يحذفون بعد كل وفاة بعض الكلمات دلالة على الحداد”

أدهشتني الفكرة، فكرة إنهاء حياة مفردات من اللغة تزامنًا مع نهاية حياة الأفراد، بحثت بشكل سريع لأفهم ما إذا كان موت المفردات تعبيرًا مجازيًا عن نضوب استخدامات اللغة القديمة وتطور اللغات المستمر، أم أنه تعبير حقيقي يصف الواقع. بعد بحث سريع عثرتُ على معلومة غريبة متعلقة بعادات هذه القبيلة، فمن العادات التي تُفرض على نساء البابو أن تقطع المرأة القِسم الأعلى من أصابع يديها حين وفاة الأب أو العم.

يقول كاتب المقال: “يحدث ذلك فيما يتقوقع بابو الجبال في أكواخهم الخشبية حيث يجترون وتيرة الحياة الرتيبة الخالية مما قد يهزّ موات أيامهم المتماثلة الراكدة” وأقول ما الذي يهزّ موات الأيام أكثر من الموت؟ الموت الذي لا تعامله هذه القبائل كمعطى يومي رتيب، بل كحدث جلل يستلزم موتًا موازيًا، وفقدًا محسوسًا، يتمثل في المفردات الميتة وأعالي الأصابع المبتورة. وكأنّ هذا ترميز مكثّف لفكرة التوازي بين الحياة وبين تساقطنا المستمر بالتقادم.

***

الفصل الثاني:

يقول غاليانو في كتابه (كلمات متجولة): “هل هناك مكان لجميع الكلمات التي لا تريد أن تمكث؟ هل هناك مملكة كلمات ضائعة؟ تلك الكلمات التي تهرب، أين تكمن منتظرة؟”

بحثتُ عن الإجابة، فعثرتُ عليها داخلي، نحن ممالك الكلمات التي قيلت ولم تصل، ممالك الكلمات التي هربت ولم تنجُ من مطاردة الأسئلة، الكلمات التي احتشدت بفعل الرغبة وبددها الخوف، في داخلي أسمع كل الكلمات التي قيلت في لحظة أمل وتلقفها اليأس. والكلمات التي حان وقت قطافها ولم يأبه بموعده أحد.

***

وقائع مُلحقة بالفصل الأول:

في إحدى البلدان المحكومة بالقهر والترويع أذعن الناس، وأيقنت الكلمات بلا جدوى الشغب، فأذعنت بدورها، صارت الكلمة لا تدخل في سياق إلا بعد أن تُفتّش في نوايا أخواتها، كل كلمة تتوجس من جيرانها، لا تلتصق الكلمات بالضمائر إلا حين يشهد الضمير أنه لا يُضمر أكثر من ظاهره، ولا يعود إلا على ما اعتادوا عليه. أسماء الإشارة تطوي أصابعها فلا تدين أحدًا، ولا تشير إلا لما أشارت به السلطة.

لقد ظنّت الكلمات أن في الإذعان راحة، فأذعنت. لكنّ الواقع ضنّ عليها بالراحة المرجوّة، فقد صار على الكلمات أن تقف كل يوم في طابور طويل لا تجدد فيه عهود إذعانها -لا أحد يهتم بسماعها أصلًا- لكن لكي يُفتش الحرس عن ما قد يُريب في ظلالها، وما قد يختبئ وراءها.

***

وقائع مُلحقة بالفصل الثاني:

ضمن سياسات التقشف تم ترشيد الإنفاق اللغوي، إنها فترة عصيبة، وعلينا أن نعي نحن الذين لا نكف عن الكلام أن سياسات التقشف ضرورة وليست ترفًا كاللغة. ولذا نُزِعت ملكية أفعال الأمر لصالح الحكومة، فالفتنة كل الفتنة تكمن في رواج هذه الأفعال عند الجميع وسهولة استخدامها. ثمّ أنه لا ضرورة لوجودها في أيدي المواطنين في ظل وجود صيغ الرجاء والتذلل المتاحة لهم. صادروا صيغ النفي والإنكار، إذ لاجدوى لوجودها في ظل حتمية الأوامر، النفي والإنكار إسراف لغوي بلا معنى، ضجيج في وجه صيغ لغوية نافذة لن تتخلى عن مواقعها لصالح شغب لا طائل منه.

أمّا ضمائر المتكلم والمخاطب، فبعد النظر في كثرتها وشيوعها والإسراف في استخداماتها مرة للمفرد ومرة للجمع، فقد تقرر ضمّها جميعًا في كلمة واحدة تُعبر عن الجميع، إذ سيُكتفى في المرحلة الأولى من التقشف ب(أنتم) تمهيدًا لانتزاع جميع الضمائر في المرحلة الثانية والاستغناء عنها بضمائر الغيبة.

***

الخاتمة:

أخيرًا، عرفت حكومات العالم عدوّها الأزلي، فقررت مصادرة اللغة بشكل تام، إذ كان اتساعها مدعاة لضياع الرقابة وإشاعة فوضى الآراء، اُعتِقلت الضمائر، قُطّعت أصابع أسماء الإشارة، أُغلقَت المعاجم بالشمع الأحمر، مُنعَت القصائد من التظاهر والتجمع، قُيّدِت الحكايات بسلاسل حديدية، واختنقت الابتهالات بالغاز المسيل للدموع… وحين كان آخر حرف يسير مُغطى الرأس إلى ساحة الإعدام وقف السيف جامدًا حُزنًا على أسمائه التي رحلت، ولم يجد السيّاف كلمات يطلب بها المساعدة.

الأجنبي الأبدي

يفزعني أن يتخلّق جنين في جسد لا يرغب في حمله، ويظل يتكوّن في الجسد الرافض، يومًا بعد يوم، شهرًا بعد شهر، حتى يخرج من جسد الأم إلى الحياة كجسد دخيل على الحياة.

في (حفلة التفاهة) كتب كونديرا عن شعور (آلان) الذي أنجبته أمه غير راغبة، فكبر وهو دائم الاعتذار، وكأن وجوده غلطة عليه أن يحمل وزرها. يقول: “يجب على المرء أن لا يعتذر، لكنني أُفضّل عالمًا يعتذر فيه الناس جميعًا، بلا استثناء، وبلا داعٍ، وبإفراط، ومن أجل لا شيء، عالمٌ تتزاحم فيه الاعتذارات…”

يتخيّل (آلان) أباه مع أمه، يتخيّل اللحظة التي أنجبته على أنها لحظة كراهية مزدوجة ومتزامنة، يشرح كونديرا شعور (آلان) بالكراهية المزدوجة: “كراهية اللطافة والقوة الجسدية مقترنة مع كراهية الجرأة والضعف الجسدي. وقال في سرّه إنّ ثمرة هذه الكراهية المزدوجة لا يمكن أن يكون إلا معتذرًا: كان وديعًا ولطيفًا مثل والده؛ وسيظل دخيلًا كما رأته والدته. ومَن كان وديعًا ودخيلًا في آنٍ معًا فقد حُكِمَ عليه بمنطق صارم أن يعتذر طيلة حياته”

يذكّرني هذا بفكرة قريبة قرأتها في مذكرات الروائي العراقي (سليم مطر) الذي خُلِقَ في رحم أمه مرفوضًا، لكن رفض ولادته لم يكن وليد الرغبة والاختيار، بل كان رفضًا اضطراريًا تسبب فيه الفقر وكثرة الأفواه التي تحتاج إلى طعام، تحت عنوان (الأجنبي الأبدي) يقول (سليم مطر) في مذكراته (اعترافات رجل لا يستحي): “منذ سنوات، كنت لدى طبيب بدائلي، طرح عليَّ السؤال الغريب التالي:

ـ هل أخبرك أهلك، بأنك كنتَ طفلاً غير مرغوب به؟

لم أفهم سؤاله إلاّ بعد أن أعاده عليَّ بأسهاب وتوضيح. حسب تشخيصه، أني تكونت في رحم أمي من دون رغبتها، وقد حملت بي رغمًا عنها. مثل هؤلاء الأطفال يتملكهم إحساس بأنهم طارئون على الأهل وعلى الحياة، وأنهم يشكلون عبئًا على الآخرين. ولهذا فإنهم يُمضون حياتهم وفي دواخلهم مشاعر اعتذار لأنهم هنا في هذه الدنيا، مثل ضيف ثقيل..”