-مدخل إلى اللّغويّات غير التطبيقية-
المقدمة:
يتعقب كاتب المقالات اللغة، ويركض كاتب التحقيقات الصحفية خلف الكلمات الملائمة، يراود الشاعر الاستعارات عن نفسها، ويتوكأ القاص على التراكيب الجيدة ليهش بها على النسيان. تجول الكلمات كل ليلة في المطابع وسط الحرس القديم، فيقصقص المحرر ذيولها لتتواءم مع ضيق المساحة، ويعرّيها الرقيب وينتهك عفتها أثناء استجوابها، لا يقف سوء الخاتمة هُنا، بل يتعدى هذا إلى تحنيط هذه الكلمات المبتورة على صحف يومية متعددة الاستخدامات، إذ يُمكن استخدامها كمصدر للخبر، أو سُفرة للطعام، أو ممسحة للمرايا حيث نجد الانعكاس الوحيد المطابق لنا.
***
التمهيد:
حكت لي أمي قصة شاب فاقد للسمع والنطق، كان يعيش في قريتها، ويملك عددًا كبيرًا من الأغنام، يخرج يرعاها بعيدًا عن القرية وقريبًا من مرتفعات جبلية تقطنها قبيلة أخرى. هناك كان يلتقي امرأة اسمها (شمسية) تكسب رزقها من الحياكة والبيع، تجلس إلى جواره في فضاء الرعي لتكمل حياكتها بينما يراقب أغنامه. لا أعرف بأي لغة تواصل هذا الشاب الأخرس مع (شمسية) التي يبدو أنها مدّت ظلالها في حياته، فوصل قلبه بها، فصارت كل شيء… ولأنه لا شيء في نظر أهله لم يحاول أحد منهم أن يقنع أهل (شمسية) بالموافقة على ارتباطه بها، ومن ثمّ حجبوها عنه، وما احتجب… كان يمضي كل يوم إلى جبال قبيلتها، لا يعبأ بتخويف أهله ولا بتهديد أهلها، لم يكن يسمع كلمات التهديد أصلًا. ظلّ يسلك طريقه حيث تكون رغم وعيد أهلها بقتله، وحين تزوجت حبيبته رجلًا آخر وأيقن بيأسه داهمته الأمراض حتى مات في شبابه.
كنت أفكر وأنا أنصت للحكاية في عذوبة اسم (شمسية)، فكرتُ أيضًا في اللغة التي تواصلا بها وفي الكلام الذي وصل بين قلب الشاب وقلبها… لكن ماشغل تفكيري بشكلٍ كبير هو الكلام الذي كان يحتشد داخله ومات دون أن ينطقه، مات مسمومًا به.
***
الفصل الأول:
في كتاب رولان بارت (نقد وحقيقة) قرأت التالي: “يقول الجغرافي بارون: إن اللغة في قبائل “البابو” فقيرة، ولكل قبيلة لغتها ومفرداتها التي تميل إلى الفقر من غير توقف، لأن القوم يحذفون بعد كل وفاة بعض الكلمات دلالة على الحداد”
أدهشتني الفكرة، فكرة إنهاء حياة مفردات من اللغة تزامنًا مع نهاية حياة الأفراد، بحثت بشكل سريع لأفهم ما إذا كان موت المفردات تعبيرًا مجازيًا عن نضوب استخدامات اللغة القديمة وتطور اللغات المستمر، أم أنه تعبير حقيقي يصف الواقع. بعد بحث سريع عثرتُ على معلومة غريبة متعلقة بعادات هذه القبيلة، فمن العادات التي تُفرض على نساء البابو أن تقطع المرأة القِسم الأعلى من أصابع يديها حين وفاة الأب أو العم.
يقول كاتب المقال: “يحدث ذلك فيما يتقوقع بابو الجبال في أكواخهم الخشبية حيث يجترون وتيرة الحياة الرتيبة الخالية مما قد يهزّ موات أيامهم المتماثلة الراكدة” وأقول ما الذي يهزّ موات الأيام أكثر من الموت؟ الموت الذي لا تعامله هذه القبائل كمعطى يومي رتيب، بل كحدث جلل يستلزم موتًا موازيًا، وفقدًا محسوسًا، يتمثل في المفردات الميتة وأعالي الأصابع المبتورة. وكأنّ هذا ترميز مكثّف لفكرة التوازي بين الحياة وبين تساقطنا المستمر بالتقادم.
***
الفصل الثاني:
يقول غاليانو في كتابه (كلمات متجولة): “هل هناك مكان لجميع الكلمات التي لا تريد أن تمكث؟ هل هناك مملكة كلمات ضائعة؟ تلك الكلمات التي تهرب، أين تكمن منتظرة؟”
بحثتُ عن الإجابة، فعثرتُ عليها داخلي، نحن ممالك الكلمات التي قيلت ولم تصل، ممالك الكلمات التي هربت ولم تنجُ من مطاردة الأسئلة، الكلمات التي احتشدت بفعل الرغبة وبددها الخوف، في داخلي أسمع كل الكلمات التي قيلت في لحظة أمل وتلقفها اليأس. والكلمات التي حان وقت قطافها ولم يأبه بموعده أحد.
***
وقائع مُلحقة بالفصل الأول:
في إحدى البلدان المحكومة بالقهر والترويع أذعن الناس، وأيقنت الكلمات بلا جدوى الشغب، فأذعنت بدورها، صارت الكلمة لا تدخل في سياق إلا بعد أن تُفتّش في نوايا أخواتها، كل كلمة تتوجس من جيرانها، لا تلتصق الكلمات بالضمائر إلا حين يشهد الضمير أنه لا يُضمر أكثر من ظاهره، ولا يعود إلا على ما اعتادوا عليه. أسماء الإشارة تطوي أصابعها فلا تدين أحدًا، ولا تشير إلا لما أشارت به السلطة.
لقد ظنّت الكلمات أن في الإذعان راحة، فأذعنت. لكنّ الواقع ضنّ عليها بالراحة المرجوّة، فقد صار على الكلمات أن تقف كل يوم في طابور طويل لا تجدد فيه عهود إذعانها -لا أحد يهتم بسماعها أصلًا- لكن لكي يُفتش الحرس عن ما قد يُريب في ظلالها، وما قد يختبئ وراءها.
***
وقائع مُلحقة بالفصل الثاني:
ضمن سياسات التقشف تم ترشيد الإنفاق اللغوي، إنها فترة عصيبة، وعلينا أن نعي نحن الذين لا نكف عن الكلام أن سياسات التقشف ضرورة وليست ترفًا كاللغة. ولذا نُزِعت ملكية أفعال الأمر لصالح الحكومة، فالفتنة كل الفتنة تكمن في رواج هذه الأفعال عند الجميع وسهولة استخدامها. ثمّ أنه لا ضرورة لوجودها في أيدي المواطنين في ظل وجود صيغ الرجاء والتذلل المتاحة لهم. صادروا صيغ النفي والإنكار، إذ لاجدوى لوجودها في ظل حتمية الأوامر، النفي والإنكار إسراف لغوي بلا معنى، ضجيج في وجه صيغ لغوية نافذة لن تتخلى عن مواقعها لصالح شغب لا طائل منه.
أمّا ضمائر المتكلم والمخاطب، فبعد النظر في كثرتها وشيوعها والإسراف في استخداماتها مرة للمفرد ومرة للجمع، فقد تقرر ضمّها جميعًا في كلمة واحدة تُعبر عن الجميع، إذ سيُكتفى في المرحلة الأولى من التقشف ب(أنتم) تمهيدًا لانتزاع جميع الضمائر في المرحلة الثانية والاستغناء عنها بضمائر الغيبة.
***
الخاتمة:
أخيرًا، عرفت حكومات العالم عدوّها الأزلي، فقررت مصادرة اللغة بشكل تام، إذ كان اتساعها مدعاة لضياع الرقابة وإشاعة فوضى الآراء، اُعتِقلت الضمائر، قُطّعت أصابع أسماء الإشارة، أُغلقَت المعاجم بالشمع الأحمر، مُنعَت القصائد من التظاهر والتجمع، قُيّدِت الحكايات بسلاسل حديدية، واختنقت الابتهالات بالغاز المسيل للدموع… وحين كان آخر حرف يسير مُغطى الرأس إلى ساحة الإعدام وقف السيف جامدًا حُزنًا على أسمائه التي رحلت، ولم يجد السيّاف كلمات يطلب بها المساعدة.