الشهر: أكتوبر 2018
تدوير الشغف
في عامي السادس عشر تقريبًا، أيام الثانوية، ما قبل التواصل الذي يحشد وقتنا بالبعيدين، وبالفراغ، وبأي شيء، وبكل شيء…
قبل أن أعرف دهشة الجلوس أمام نوافذ الإنترنت التي تتفتح على المعلومات، على الشعر والفن والناس… ما زلتُ أتذكر جلوسي الأول أمام الكمبيوتر المكتبي، بنظام تشغيل ملينيوم، والكلمات الأولى التي كتبتها في قوقل، ودهشتي من هذا الشيء السحري الذي يقبل أي شيء أكتبه، أي شيء… لدرجة أني كتبت كلمات بذيئة لأكسر عينه، فكسر عيني وأظهر لي نتائج، فبدأت أكتب كلمات من لهجتنا القروية، كلمات مشفرة لا يعرفها إلا العجائز، وقد كان يستكشف بعضها ويتعثر في البعض.
المهم أنّي قبل هذا كله، وفي سن السادسة عشر، قرأتُ هذا الكتاب لأول مرّة، ثمّ قرأته أكثر من مرة، وقضيت ليالٍ بصحبته، ومنهُ عرفتُ جبران وميّ… وفُتِنت، وأتذكر أني في أول معرض كتاب زرته في حياتي، بعد تلك الأيام بخمس سنوات، وجدتُ كتابًا عنوانه (روائع جبران) واقتنيته… ولم أعثر هناك على (ميّ) لكني عثرتُ على آخرين، أبرزهم (ماركيز).
لنعد إلى عامي السادس عشر، لليالي التي قرأتُ فيها جبران يقول: “أنا ضبابٌ يا مي، ضبابٌ يغمر الأشياء، ولكنّه لا يتحدُّ وإياها… أنا دائمًا في انتظار، انتظار ما لا أعرفه”
كنتُ أحلم بالنجاح، بأيام جامعية أقضيها في دراسة تخصص أحبّه، وكان أبعد من ذلك حُلمي بتدريس هذا التخصص، بتفتيق العقول على الدهشات التي كانت تتفتق في عقلي وروحي كلما قرأتُ كتابًا يخصُّ الأدب. كنتُ أحلم أن أكتب، وكنت أكتب أيامها، كلمات حفلات المدرسة، مواضيع تعبير لي وللصديقات في مقابل أن يكملن لي دفتر العلوم، رسائل من مها لحبيبها أيمن😂 وأرفض أن أعطيها الورقة لتنقل منها وأُملي عليها نصّ الرسالة بنفسي ثمّ أمزّق الأصل المكتوب بخطّي، لأن وجود رسالة بخطّي تتضمن كلامًا متقدًّا بالعاطفة في تلك الأيام كفيلة بأن تتسبب في تمزيق جلدي ضربًا في المدرسة وفي البيت هههه.
كبرتُ وحققت كل ما حلمتُ به في تلك الليالي، في الدراسة والعمل وأشياء كثيرة.
وكبرتُ أيضا على كتب كثيرة من كتب تلك الأيام، إذ صار سقف ذائقتي أعلى ربما، ومعايير الدهشة أكبر وأبعد… لكنّ ذكرى دهشات تلك الأيام لم يمحها الزمن، وإن كبرتُ على كل شيء لن أكبر أبدًا على الدهشة…
يورد الكاتب في الفصل الخاص ب(أزمة مي زيادة) نصًا تصف فيه (مي) نفسها في بدء حياتها الأدبية، وتضع لنفسها صورة كلّها إشراق وتطلّع وطموح، تقول: “استحضري فتاة سمراء كالبُنّ أو كالتمرِ الهنديّ -كما يقول الظرفاء- أو كالمسك -كما يقول متيّم العامريّة- أو كالليل كما يقول الشعراء، وضَعي عليها طابعًا سديميًا، عن وجدٍ وشوق وذهول وجوع فكريّ لا يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يُرافق أولئك جميعًا استعداد كبير للطرب والسرور، واستعداد أكبر للشجن والألم، واطلقي على هذا المجموع اسم (ميّ)”
وهذه الشابة المتوقدة بالشغف والظمأ الفكري والعطش الروحي، تصف ذاتها بعد الأربعين، في محنتها وبعد أن تكالبت عليها مصائب الفقد، فقد الأم والأب وجبران… وخذلان الأهل والصحاب، فتقول: “إنّي أتعذب عذابًا شديدًا ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسّه من حولي، إنّي لم أتألم أبدًا في حياتي كما تألّمتُ اليوم، ولم أقرأ في كتابٍ من الكتب أنّ في طاقة بشريّ أن يتحمل ما أتحمل. إنّه وهم شعريّ تمكن منّي، إنّ هناك أمرًا يمزّق أحشائي ويُميتني كلّ يوم، بل كل دقيقة. لقد تراكمتْ عليّ المصائب في السنوات الأخيرة، وانقضّتْ على وحدتي الرهيبة التي هي معنوية أكثر منها جسديّة، فحعلتني أتساءل كيف يُمكن عقلي أن يُقاوم عذابًا كهذا. كنتُ أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقّة لعلّي أنسى فراغ سكني، أنسى غصّة نفسي، بل أنسى كل ذاتي… اللفائف التي أدخنها ليل نهار -أنا التي لا عهد لي بذلك- أدخنها ليضعف قلبي، هذا القلب السليم الذي لا زال يقاوم”
قبل أيام عدتُ إلى هذا الكتاب، قرأتُ مقدمته وفيها يؤكد المؤلف على أهمية الحفاظ على التراث الأدبي عن طريق حفظ تراث الأدباء ومكتباتهم ومخطوطاتهم وقصاصات أوراقهم، يرى في منازل الأدباء كنوزًا يفرّط فيها ذووهم، يذكر أدباء ضاع إرثهم الأدبي بوفاتهم، لم يحفظه الأهل ولم يتيحوه لمن يوثّقه من الباحثين والمهتمين بالأدب.
حين تحدث المؤلف عن لياليه الثرية التي قضاها في مكتبات الأدباء وبيوتهم تذكرتُ الليالي التي قضيتها مع كتابه أصافح الدهشة والثراء.
في مرحلة من عمري، في بدء المراهقة فُتِنتُ بالمنفلوطي، وطاردت روايات أجاتا كريستي، وشغفت بأنيس منصور، ورافقت كتب عبد الله الجعيثن، ولامستْ قلبي غادة السمّان، وارتبط شعوري بشعور فاروق جويدة، وقرأت لقماشة العليان.
وفي مرحلة لاحقة كبرتُ وشاخت نظرتي لهؤلاء، صرتُ أرى أنهم مرحلة تجاوزتها فكريًا وروحيًا…
حين نكبر لا نكبر عمرًا فقط، بل نكبر على كتبٍ كبرنا بها أمس، نكبر على قصص العشاق والإيمان بالشعر، نكبر على تصديق هيام الرومانسيين وعواطفهم المتقدة. ونكبر على الدهشة، تسقطُ منّا بالتقادم.
وقد كبرت بطبيعة الحال وحلّ محلّ دهشاتي القديمة بقصص الشعراء العشّاق سخرية دائمة من قصص الحبّ ووعود العشاق. 😊
لدرجة أنّي فكرت أن أكتب ما يلي في رسالة ساخرة:
👰🏻: حبيبي متى تخطبني؟
👴🏻 جبران خليل جبران يقول: “أنا ضبابٌ يا مي، ضبابٌ يغمر الأشياء، ولكنّه لا يتحدُّ وإياها…”
🤷🏻♂️ كافكا يجيب: “تتوهمين، فلن تستطيعي البقاءَ إلى جانبي مدّة يومين. أنا رخوٌ، أزحفُ على الأرض. أنا صامتٌ طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداويّ. هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أحياها؟! … لا أريدُ تعاستكِ، اخرجي من هذه الحلقةِ الملعونةِ التي سجنتكِ فيها”
🧟♂️والسعودي ينصح: تستاهلين واحد أحسن منّي”
😂🚶🏽♀️
كنتُ أتساءل اليوم: هل التحوّل الذي أصاب مي أصابني، فخبت رغباتي ومات شغفي؟ لكنّ الدهشات لا تنضب، إذا كان تناسخ الأرواح كذبة، فإن تناسخ دهشات البشر حقيقة، حقيقة ناصعة ومضيئة.
ألمح دهشات طالباتي، من قلق الأسئلة في عيونهنّ والتوقد في نظراتهن فأستمدُّ دهشتي.
درّستُ مقررًا لمجموعة سيئة جدًا، ضعيفة جدًا، محبطة بشكل مميت، درستهم بإحباط فظيع… بلا شغف ولا رغبة ولا دافعية، وبعد سنة دعتني إحداهن لحضور ندوة ستقدمها عن شعر الملاحم. حضّرت. وفاجأتني بذكر اسمي في مقدمة الندوة، قالت إن الفضل لي فقد كنتُ أوقد فيها شغف الإطّلاع وبعد كل محاضرة تبدأ بحماس في القراءة عن معلومات هامشية ذكرتها عرضًا أثناء الدرس… وقالت: أنا سعيدة أنّي أحاكي اليوم ما زرعته أستاذتي فيّ… فبعثتني من رمادي، وصرتُ أدرّس هذه المادة بشغف وأحاول تقديم أفضل ما عندي.
درّستُ مادة أخرى لا أطيق تدريسها، فُرضت عليّ وحاولت أن أبادلها ولم ينجح التبديل… فدرّستها بلا رغبة. وفي نهاية الفصل الدراسي وصلتني رسالة مطوّلة من إحدى الطالبات تتحدث فيها كيف أعادت لها محاضراتي بريق الدهشة والشغف، بعد أن ظنّت أنها فقدته تمامًا…
لا أحكي هذه المواقف لأمتدح نفسي، لا أقول هذا للتظاهر، فأنا أقل من هذا، ولستُ كبيرة إلا في أعينهن وبأعينهن، لستُ كبيرة إلا بفضلهم… لكنّي أقول ما قلته هُنا للتأكيد على أنّ الدهشات لا تنضب…
وكما كبرتُ أنا طالباتي سيكبرن، سيبهت شعورهن تجاه محاضراتي، سيتجاوزن فكريًا هذه المرحلة، وينطلقن إلى آفاق أرحب… لكنّ انطفاء دهشة طالباتي بما قدمته لهنّ لن يمحو شعور الدهشة من العالم، في الغد متسع لدهشات تستيقظ في قلوب طالباتي من جديد، دهشات متّقدة في عيون طالباتاهن، تشتعل من قلق الأسئلة، وترتوي من تعطّش نظرات طالباتهن الطامعات بالمزيد.
نداء استغاثة
“أيّها الداخلون، اطرحوا عنكم كلّ أمل”
نقشٌ على باب الجحيم- الكوميديا الإلهية
يصف أحد فصول (الكوميديا الإلهية) آخر مرحلة من مراحل الجحيم، حيث يتحول الجحيم من شدّة الحرارة إلى شدّة البرودة. فيُعذّب الآثمون في جحيمٍ جليدي، يُغْمَرون بالجليد إلى رِقابهم، البرد هناك شديد جدًا، جدًا. حتى الدموع تتجمدُ فيه، فيفقدون دفء البكاء. وآخرون منهم يُغمرون بالجليد حتى رؤوسهم، كي يُحرموا من أي دفء قد تبعثه أنفاسهم المُتعبة في هذا الصقيع.
أفكّر في جهنّم الربّ، وفي نقيضها؛ في النار والماء. وأضعهما بإزاء هذا الجحيم الجليدي، هذا العذاب الذي اخترعه البشر لا الربّ.
في التعذيب بالنار، حين يشتعل اللهب في الجسد، يهرع المحترق إلى خيار الهرب، الهرب الذي لا يُنجي، تدفعه حُرقة اللهب الفظيعة إلى الهرب والركض والحركات اللاإراية المتسارعة التي قد تفاقم الاشتعال. خياره غير فاعل لكنّه -على الأقل- يملك حق تفعيل الخيارات غير الفاعلة، بوسعه أن يتحرك أمام هذا العذاب الفظيع، مُجبرًا يُعبّر عن حرقته وألمه وعذاباته بهذه الحركة السريعة المضطربة…
في الهلاك بالغرق، حين اجتاح الطوفان الإلهي المكذبين من قوم نوح، حين ابتلع البحر جبروت فرعون وطغيانه، ربما كان بوسع أولئك المعذبين أن يحركوا أيديهم بعكس حركة الماء، أن يرفعوا رؤوسهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، أن تتحرّك أجسادهم بهلع ضد الغور الذي يبتلعهم. امتلكوا حق تفعيل الخيار غير الفاعل أيضا، الفكرة الأخيرة التي طرأت على رؤوسهم وهي تُغمر بالماء هي فكرة النجاة من خلال الحركة، فتحركوا وتحركوا إلى النهاية.
أمّا الجحيم الجليدي، جحيم الكوميديا البشريّة التي نعيشها، في الفصل الأخير من فصول الجحيم الذي نُحبس فيه اليوم، وأستشعره كل حين يعذّبني ببرده الشديد إلى درجة تجمّد الدّموع في العيون أمام كل هذه الفظائع. لا نتعذّب بالبرد وحده، نتعذّب أيضا بالجمود، بالشلل، بالعجز عن المقاومة، بالحرمان من حق أداء حركات بهلوانية نتوهم من خلالها النجاة.
يحبسنا هذا الجحيم عن كل شيء، يحرمنا من تحريك أيدينا بهلع الغارقين، ومن الركض بأجسادنا بيأس المحترقين، يحرمنا حتى من الدّموع…