ناي

حين كان أبي يرعى أغنام أبيه في ماضيه البعيد تعلّم نفخ الألحان في النّاي كأغلب الرعاة. وما زال قادرًا حتى اليوم على إحالة أي عصا مجوّفة ومثقوبة إلى آلة تبعث اللحن الراقص الجميل، والنحيب الطويل.

يحكي أنيس منصور في كتابه (غرباء في كل عصر) قصّة عن النّاي تقول إن أصل اسم الفيلسوف الفارابي هو (الفأر أبي) وقد سُمّي باسمه هذا حين قرض فأر قصبة خشبية وصارت نايًا، فتعلّم الفارابي درسًا من هذا الفأر الذي جوّف القصب وأصدر الصفير. فقال: “الفأر: أبي” لأنّ الفأر الذي قرض القصب علّمه كيف يكون سرّ الأشياء وقيمتها في تجويفها/في الفراغ المُحدث فيها.

حسين البرغوثي في كتابه (سأكون بين اللوز) يروي أسطورة أخرى عن النّاي، إذ يقول إن الله عزّ وجلّ أودع في صدر النبي محمد سرًا إلهيًا لم يستطع النبي تحمّله فباح به إلى علي بن أبي طالب وأمره أن لا يبوح به لأحد، ولم يستطع عليّ تحمله أيضا فذهب إلى وادٍ عميق وباح بالسرّ لقصب الوادي ومن يومها وكل ناي من القصب يصدر عنه نغمة هي سرّ إلهي لا يُمكن أن يبوح به الكلام.

أمّا جلال الدين الرومي فيقول إن حزن النّاي سببه حنين القصب إلى غاباته التي قُطِعَ منها، حنين إلى أصله، إلى أوديته ووطنه.

أمّا أسطورة النّاي عندي فتتمثل في قدرته على تهدئة رعدة قلبي حين أنظر إلى يدي أبي وهي تلاعب ثقوب النّاي، فأتحصّن في هذه الثقوب وأختبئ من وحشة العالم، ولا أتخيل العالم ما لم تكن يدا أبي مبتداه وحدوده ومُنتهاه.

أمّا أبي، فتتمثل أسطورة النّاي عنده في يقظة الرُعاة الساكنين في دمه/في دمي. كي يصفّروا ألحانًا متزامنة تهدئ الماضي حتى لا يجفل أمام صخب وسخط الحاضر.

الإبداع والحريّة

حين تتسع مساحات الحرية يتمدد فوقها الإبداع ويتنامى مُتحررًا من الجمود وضيق المساحة. يعتقد كثيرون أنّ العلاقة بين الإبداع والحرية علاقة لزوم واطّراد، وهذا يعني أنّ تزايد القمع يصيب الإبداع في مقتل، فيجفف الخوف منابع الإلهام ويضع القمع أشواكه ومتاريسه في طريق الإبداع.
كتبٌ كثيرة تم تأليفها في أزمنة الاضطراب والفتن تشهد بغير هذا، إذ يُخاتل فيها الإبداع كل قيد ويصطفي لذاته أقنعة يتحدث من ورائها، فيُنطِق الحيوانات ويستدني التاريخ من حيّز الماضي ويُعيد روايته وفقًا لمعطيات الحاضر. من هذا استنطاق ابن المقفع لحيوانات (كليلة ودمنة)، واستدعاءات ابن ظفر الصقلي لحوادث التاريخ في كتابه (سلوان المطاع)، وتأطير ابن عربشاه للحكايات وتوليدها في كتابه (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء)، واختلاق أخوان الصفا لوقائع محاكمة تدور بين الإنس والحيوان لإدانة وحشية الإنسان، وتحليق ابن سينا في فضاء الكلام مع سرب من الطيور في رسالته (الطير) التي ضمنها أفكاره على لسان طيور محلّقة تسامت عن ضيق المكان فخلّدها الزمان. كل هذا وغيره يشهد على قدرة المبدعين وغلبتهم لمساحات السكوت والتوجس بكتابات تقول ولا تقول، تعترض دون أن تُفصح، تُحذّر دون أن تختنق، وتحاكم وتحكم دون أن ترتقي مقعد السلطان.
هذه المؤلفات وإن شهدت بأن الإبداع قادر على المخاتلة ويعرف طرقًا متعددة للوصول، إلا أنّها تطرح سؤالًا عن صوت الإنسان المُغيّب خلف ما لا يعقل وما لا ينطق، صوته المتواري خلف أموات يستدعيهم من التاريخ لينطقوا نيابةً عنه، أو حيوانات عجماء تنطق بصوته.

في مقابل هذا الإبداع المُخاتل، ثمة إبداع مُنقاد، لا يُمكن أن نقول إنّ انقياده كان وبالًا عليه، فقد خلدت قصائد كثيرة نمت في حضن السلطة ومجّدت الطُغاة. لكنّها كانت إبداعات طيّعة لا تقول إلا ما ينبغي أن يُقال، ولا تنطق بصوت أصحابها بل تستعير صوت السلطة لترده إليها وتُسمعها إياه في قوالب جديدة. لكن خلودها لا يعني تأثيرها وقدرتها على بعث الشجى ليوقظ الأمل، أو ليواسي اليأس على الأقل. ولذا فإن الأثر النفسي الذي تحدثه قصّة واحدة من أدب السجون لا يدانيه تأثير ألف قصيدة مدح.
في السجن، في هذا المكان الذي يحتشد غالبًا بمن نادوا الحريّة وهتفوا لها. في هذا القفص الخانق ألّف الشاعر الأندلسي يوسف بن هارون الرمادي كتابًا سمّاه (الطير) وصفَ فيه من سجن الزهراء كل الطيور التي رآها من قبل تُحلّق بحريّة خارج القضبان وأهداه إلى رجل من السلطة التي سجنته، هذا الإهداء إن كان في ظاهره يوحي بالاستعطاف إلا أن جوهره تحدٍ للسجّان وكأن الشاعر الرمادي يقول لسجّانه: حبستني، فحلّقتُ بأجنحة مئات الطيور التي وصفتها في كتابي شعرًا. والشعر أكبر أجنحة ابتكرها الإنسان، يطير بواسطتها من أعمق الأمكنة المظلمة ومن أعقد التجارب المؤلمة.

والمساحة هُنا لا تكفي للحديث عن أدب السجون لأنه أدب اتسع على ضيق الزنازين، وهتف في وجه الطغيان لصالح الإبداع الحقيقي الذي لا يخرس، ولا ينضب، ولا يموت. الإبداع القادر على النمو في ظل أي سلطة، لأنه سلطة مضادة بحد ذاته.

حصيلة محدّثة باستمرار لضحايا الوقت

قضيتُ نصف يومي بين الأقمشة، بين الغسيل المتراكم منذ ستة أشهر، وبين الخياطة التي عدتُ إليها منذ ثلاثة شهور بعد هجران طال لسنين.
أعمال روتينية تحت بند التأجيل، أقمشة معلقة على مشجب الانتظار خلف مهام يمر الوقت ويركنها لتتراكم وتتراكم وتُثقل الأيام لكن هذا التراكم يظل عاجزًا عن إبطاء حركة الوقت. أعطتني أُمّي ثوب جدتي لتقصيره وتضييق الكمّين، أخرجت الثوب من بين أكوام الأقمشة ودفنت وجهي فيه لأشمّ رائحة جدتي التي لم أرها منذ عيدين.
حين قلّبت الثوب بين يديّ وجدتُ فيه آثار خياطة يدوية في كل مكان؛ على امتداد الجانبين، حول فتحة الرقبة، على جانبي الكُمّ… جدتي التي لا يساعدها بصرها على إدخال خيط في إبرة لا تمل الحياكة لملء فجوات الوقت المتراكم في حجرتها الباردة. تطلبُ ممن يزورها أن ينظم لها عددًا من الخيوط في عدد من الإبر كي تظل تستخدمها حتى زيارة قادمة. تحيكُ ثيابها من جديد، تُغيّر القياسات، تنجح أحيانًا وتفسدها في أحيان أخرى، تحيك من بقايا الأقمشة أغطية لكل شيء؛ للمخدات، لألعاب الصغار، لهاتفها النقّال الذي لا تعرف منه إلا زر السماعة الخضراء…
يبدو أن اتساع العالم وتناميه يُشعرها بالضياع فتنهمك في حياكة الأغطية التي تمنح الأشياء شيئًا من الدفء والسكن والحميمية.
ولكي تغلب الوقت الذي ركض بها حتى أوصلها هذا العُمر ثمّ صار بطيئًا مُثقلًا بالكاد يمر تنقض ما حاكته أحيانًا، وتُعيد حياكته من جديد.

أنا… أضغط على دوّاسة المكينة فينقطع الخيط، يصيبني ضجر شديد يدفعني إلى رمي القماش من يدي والإعراض عن إتمام العمل. فأمام مكتبي الذي أضع عليه مكينة الخياطة لوحة تزدحم عليها قوائم المهام التي يضيق عليها الوقت. بينما يتكدس الفراغ أمام سرير جدتي الذي تجلس عليه طوال النهار منهمكة في الحياكة، وفي الفراغ المتكدّس يتطاول الوقت.

أتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا الذي خاض حربًا طويلة في رواية (مئة عام من العزلة) ولم تقتله الحرب، ولا قتله السمّ الذي احتساه في كوب قهوة، ولا أربع عشرة محاولة اغتيال، ولا ثلاثة وسبعين كمينًا، ولا فصيلة الإعدام التي تبدأ الرواية بوقوفه أمامها، ولا حتى محاولة الانتحار التي صوّب فيها مسدسه إلى قلبه فخرجت الرصاصة من ظهره دون أن تُصيب أي عضو من أعضائه الحيوية مع أنه وضع حول قلبه علامة بالحبر كي لا يخطئ التصويب…. ثم لم يقتله شيء إلا الزمن، حين وجد نفسه سجين الشيخوخة وبرد الوحدة، فصار يقضي الوقت في عمل أسماك من الذهب يبيعها مقابل عملات ذهبية ثمّ يحوّل العملات الذهبية التي كسبها إلى أسماك ليبيعها من جديد… بحيث يكثر عمله كلما كثرت مبيعاته. تقول الرواية: “الحقيقة أنّ ما كان يُهّمه ليس التجارة وإنما العمل، فهو يحتاج إلى كثير من التركيز لتثبيت الحراشف، وإلى الدقة لترصيع موضع العيون بأحجار صغيرة من الياقوت الأحمر، وتصفيح الخياشيم، وتركيب الزعانف. فلا يبقى لديه فراغ واحد يملؤه بخيبات آمال الحرب. كان مُستغرقًا في الانتباه الذي تتطلبه دقة حرفته اليدوية حتى شاخ خلال سنوات قليلة أكثر مما شاخ خلال سنوات الحرب كلها” ولعلّه شاخ بفعل التكرار ورتابة الوقت، أكثر من شيخوخته بفعل الفظائع ومفاجآت الوقت. أو ربما شاخ بفعل ذاكرته التي وجدت لحضورها امتدادا بامتداد الوقت و… أعتذر، سأقف هُنا؛ عليّ اللحاق بالوقت.

منجاة

نُشرت في صحيفة الوطن:

٢٠١٨١٢٠٩_١٨٤٩٥٧3046503488938257268..jpg

في (دُكّان) القرية الصغير رأيتُ (ندى) عدة مرات، فتاة سمراء نحيلة وطويلة لم ينشأ بيني وبينها أي حوار، فلم تحتفظ ذاكرتي بملامحها، ولا أعرفها إلا من خلال صورة يكاد يطمسها غبار السنين. لكنّي أحتفظ بحكاية أمها التي لم أرَها قط، فقد ماتت قبل مولدي. (ندى) تكبرني عُمرًا لكنها لا ترتاد المدرسة، درستْ لعامين وتمّ فصلها لأنها لا تملك أوراقًا ثبوتية في هذا العصر الذي يقدّس الفيزياء ويؤلّه العلوم، لكنّه يتراجع عن تقديس الفيزياء حين يتعلق الأمر بالبشر، فلا يعترف بحضورهم الفيزيائي ولا يرى أجسادهم وأصواتهم والتعابير التي على وجوههم والحيّز المكاني الذي يشغلونه، لا يكفي كل هذا لإثبات وجودهم إن غابت الأوراق المُسماة (إثباتات) فبدونها لن تعرفهم أو تعترف بهم أي جهة رسمية أو غير رسمية.

في (دُكّان) القرية الصغير رأيتُ (ندى) عدة مرات، وفي بيتنا سمعت حكاية أمّها عِدة مرات أيضا، حكاية عن امرأة شابة عانت في زواجها القصير معاناة لا تُطاق فدخلت إلى حجرتها وأحكمت إغلاق الباب، سكبت البنزين على جسدها وكأنها تؤدي طقوس الخلاص، ثمّ أشعلت النار، فماتت، تفحّمت، ترمّدت، وانتثر رمادها في قلوب نساء القريّة التي استحالت سرادق عزاء لا يرتادها المعزّون… تركت خلفها (ندى) ابنتها من زوجها الذي دفعها لهذا المصير المروّع، ولم يكتفِ بهذا بل ترك ابنته في عراء المجهول وقسوة الرفض، تعيش دون أن يستخرج لها أوراقًا ثبوتية تعترف بها، لا شهادة ميلاد تُثبت أنها خرجت من رحم أمّها كباقي البشر، ولا ورقة تطعيمات لتأمين مستقبلها، ولا بطاقة عائلة تضم اسمها، لأنها في الأصل لم تجد عائلة تضمّها.
قد تكون هذه الحكاية أول حكاية أسمعها عن الانتحار، ولذا لم أنسها، وربما كانت ثاني حكاية، والحكاية الأولى عن امرأة لم أعاصرها ماتت غرقًا في إحدى الآبار، اختنقت فيها قبل أن يخنق أهالي القرية رغبتها في الفناء فينقذوها.
وحين انتشلوا جثها الثقيلة اكتشفوا أنها ألقت بنفسها عمدًا في البئر، إذ تقفّوا أثر خطواتها على التراب، فوجدوا أنها كانت تمشي بشكل عكسي نحو الخلف لتتلقفها البئر فجأة دون أن تُبصر هاويتها التي قد تُخيفها فتتراجع أو تتردد. سارت إلى نهايتها بخطة مرسومة، جعلت الموت خلفها لأنها تثق في رحمته وعطفه، أعطته ظهرها واثقة أنّه لن يغدر بها. وجعلت وجهها في وجه الحياة التي لم تنصفها، تُحدّق إلى الفضاء الشاسع أمامها وكأنها تريد أن تعاتبه، لأنه لم يتسع لها… ظلّت تتراجع مذعورة من امتداد الحياة أمامها، تتراجع إلى الوراء، وتتراجع… حتى سقطت في البئر وابتلعها العدم الذي جاءت منه… هذه المرأة هي الشخص الوحيد الذي وجد طريق الرجوع في هذه الحياة. وللقصة توضيحات وشروح تقول إنها فعلت ذلك بعد أن تعبت من شكوك أخيها واتهاماته، لكن هذا التفسير ليس إلا هامشًا لموتها، فالمتن قال لها: لا حياة.

http://www.alwatan.com.sa/Culture/News_Detail.aspx?ArticleID=347945&CategoryID=7

الأرق، وداء النسيان


في رواية مئة عام من العزلة، يُصاب أهالي ماكوندو بداء الأرق، يفرحون في البدء “أفضل لنا ألا ننام لأن الحياة تغدو أكثر خصباً” ولكن بعد أيام من اليقظة المستمرة يفقدون ذاكرتهم تدريجيًا، الذكريات القديمة، التاريخ، المعارف، أسماء الأشياء… ثم يتفاقم الفقد فيبدأون في نسيان تفاصيل حياتهم اليومية، ذاكرتهم قصيرة المدى، يدونون أسماء الأشياء عليها: بقرة، منزل، طاولة… ويتفاقم النسيان، فتصبح هذه الاحتياطات بلا جدوى، ينظرون إلى البقرة والورقة التي تشير إلى اسمها، يدركون أنها بقرة… لكن ماذا بعد؟ يزيدون احتياطاتهم فيكتبون التفاصيل: “هذه هي البقرة، يجب حلبها كل صباح كي تعطي حليبًا، ويجب غلي الحليب من أجل مزجه بالقهوة، وصنع قهوة بالحليب” على مدخل القرية يدونون: “هذه قريتنا ماكوندو” يدونون أيضا “لا تنسَ، فالرب موجود”
هذا التيقظ المزمن الذي أفقد الأهالي ذاكرتهم، انعكاس للانغماس في حاضر مبتور، فالنسيان وإن كان ينقذ الأفراد أحيانًا من أحزانهم، إلا أنه يهلك الجماعات دائمًا… النسيان عدو الجموع، الشعوب إذا انفصلت عن ذاكرتها تتوه في حاضرها، تتخبط لتستكشف بديهياته، تحتاج إلى جهود مضاعفة لتعيش الواقع، احتياطات أهالي ماكوندو تدلّ على إن الشعوب بدون ذاكرتها تفقد كل شيء، المنفعة/البقرة.. الهوية/ماكوندو… اليقين/الرب موجود…

المُستَدرك على قصة برج بابل

تقول أسطورة برج بابل التي تحاول تقديم تفسيرًا لتعدّد اللغات، إن البشر كانوا جميعًا على لسان واحد رغم ارتحالهم شرقًا وغربا فقد كانت تجمعم لغة واحدة مكّنتهم من جمع أمرهم في أرض شنعار من أجل بناء برج طويل يصل إلى السماء. فرأى الرب ما كان من تطاولهم على عليائه فبلبل ألسنتهم كي لا يسمع بعضهم بعضا، فتعذّر التواصل بينهم وتوقف البنيان وتفرّقوا في الأرض، ومن هذه البلبلة نشأت اللغات.
في ذهني طبعة مزيدة عن هذه الأسطورة، تتضممن فصلا إلحاقيا أتخيّل فيه حال الشعراء قبل أن يُبلبل الربّ ألسنة القوم الذين اعتلوا البرج وأطالوا بنيانه. لا بد أنّ الشعراء كانوا حينها في الأسفل يلوذون بظل البنيان ولا ينظرون إليه، كانوا يفكرون في استعارات لوصف السماء لحظة ارتماء البرج في أحضانها. حين تبلبلت ألسن البنّائين الموجودين في الأعلى، انهمرت الكلمات على الشعراء الذين في الأسفل، أصابتهم بعض الكلمات الثقيلة بالكسور، وكلمات أخرى رفّت فوق رؤوسهم بخفة الملائكة، اختبأت في أيديهم بعض الكلمات، وكلمات أخرى علقت في ثيابهم… حازوا أكبر عددٍ ممكن من الكلمات التي نتجت عن تلك البلبلة العظيمة، كلمات كثيرة تكفي لوصف كل شيء، لبناء أي شيء، ولوصف الهدام.
حين تبدد القوم في الأرض وكفّوا عن البنيان، ظلّ بعض الشعراء يحدّقون في السماء ويصفونها باستعارات لا نهائية، استعارات لو رصفوها فوق بعضها لوصلت إلى السماء قبل برج بابل. أما باقي الشعراء الذين ساروا خلف قومهم وتبدّدوا في الأرض وصاروا يعمرونها بكلماتهم في وصف الخراب، ليمدّوا بالاستعارات التي تصف خيبة الأمل جسورًا بين أقوام لا تشترك في اللغات، لكنها منذ الأزل تشترك في التيه والشتات.