عن الإبداع والتجريب والسخط والرضا

في مجلة العربي عدد يناير ٢٠٠٢ نشرَ جابر عصفور مقالًا عن أستاذته سهير القلماوي، التي بلغ امتنانه لها وتأثره بها أن سمّى ابنته على اسمها.

يحكي جابر عصفور في المقال عن مواقف أستاذته معه من جانبين: جانب أكاديمي، وجانب إنساني.

في الجانب الأكاديمي يكشف عن خطواته الأولى في طريق البحث العلمي، وتهيّبه من كتابة البحث، وثقته واندفاعه وقلّة خبرته. إذ سلّم أستاذته الفصل الأول وهو يشعر بالزهو والإنجاز الذي يشعر به الطالب المبتدئ الذي لم يدرك بعد مدى اتساع جهله. مزّقت أستاذته أوراق الفصل الأول وأعطته قائمة بمراجع ينبغي عليه قراءتها قبل أن يشرع في الكتابة مدفوعًا بحماسة البدايات، وثقة الجاهل، وأحكامه المسبقة.
بعد هذا الموقف انتابته الوسوسة حتى أصابته حُمّى التمزيق، وكلما توسّع في القراءة والإطّلاع شعر بإتساع مساحة جهله فتراجع عن ما كتب… حتى صارت أستاذته سهير تُخبّئ الفصل الذي ينتهي من كتابته في درج مكتبها وتُغلق عليه بالمفتاح وتطلب منه أن لا يستمر في البحث عن الكمال وأن يبدأ في كتابة الفصل الذي يليه وهكذا…
وظلّت عذابات الكتابة وإعادة الكتابة مرّات ومرّات تُلازم الطالب جابر عصفور حتى في مرحلة بحث الدكتوراه، وظلّت أستاذته ترفض أن تُعيد له الفصول التي ينتهي من كتابتها لتمنعه من إعادة الكتابة من جديد بحثًا عن شعور الرضا.
يقول: “حاولتُ إقناعها بأن أحتفظُ أنا بالفصلين فلم تقتنع، وحكتْ لي ملخص إحدى روايات الروائي الفرنسي إيميل زولا وهي عن رسّام شاب أراد أن يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واحدة بلوحة تُقيم الدُنيا ولا تُقعدها في معرض الفن الحديث. وحبسَ نفسه مع الموديل التي كانت تحبّه، وظلّ يرسم ويمحو ما يرسم وطال الوقت، بل مضى الوقت، وافتتح المعرض وهو لم يفرغ بعد، ومَنّى نفسه بالمعرض القادم، فالمهم أن يُنجز ما لم يُنجزه أحد من قبل، ومرّ معرض ثانٍ وثالث ورابع، واللوحة لا تكتمل، والرسام المسكين يدخل في دوامات الجنون تدريجيًا، إلى أن انتهى به الأمر إلى تمزيق اللوحة بسكين كشط الألوان، وتمزيق جسد حبيبته الموديل، ثمّ انتحاره بعد ذلك”
وعلّقت أستاذته على هذه القصة التي روتها بقولها: “لا يُمكن الوصول إلى الكمال، الكمال مثل أعلى نسعى إليه طوال العُمر. حسبنا أن نقوم في كل مرة بواجبنا حسب قدراتنا التي نصل بها إلى أقصى ما نستطيع من عملٍ وجهد. وكل مرّة ننجزُ فيها شيئًا نتعلّم من إنجازنا، ونقتربُ بهذا الإنجاز من الكمال الذي يتباعد عنّا بقدر اقترابنا منه. كأنّه يُريد أن يدفعنا إلى الصعود…”

عن الجانب الإنساني في علاقة الأستاذة بتلميذها يقول الدكتور جابر عن أستاذته: “اكتشفتُ في سهير القلماوي خلال ذلك الوقت أُمًّا حنونًا إلى جانب الأستاذة، فكانت أمّي التي ذهبتُ لأخذ موافقتها عندما قررتُ أن أخطب زميلتي التي أحببتها وأصبحتْ زوجتي وأمّ أولادي ورفيقة العمر إلى اليوم وشجعتني سهير القلماوي على أنْ أمضي فيما فعلت، بل قامت بدور الأمّ فعلًا وكانت كذلك في حفل الزفاف الصغير الذي أقمناه، بل كانت الأم التي تلقّت ابنتي الأولى التي أطلقنا عليها أنا وزوجتي اسم (سهير) وأصبحت أستاذة جامعية اليوم ولا تزال تذكّرنا بأستاذتنا التي ندينُ لها بالكثير”

….

لقراءة مقال جابر عصفور: هُنا

عبور آمن

ينطلق (جلجامش) في رحلته الطويلة للبحث عن سِرّ الحياة وحقيقة الموت وأمل الخلود، فيصل إلى الجبال التي تحرس ذُراها المتقابلة الفوّهة التي تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، يجتاز ممرّ الشمس السفلي في طريقه إلى الطرف الآخر من العالم، ويجد ذاته على شاطئ بحر الموت الذي يفصله عن جزيرة الحكيم الخالد (أوتنابشتيم)، يلتقي في هذا المكان بملّاح الحكيم يحتطب من أجل سيده العارف بسرّ الخلود، هذا الملّاح هو الوحيد الذي بوسعه إعانة (جلجامش) على عبور بحر الموت. ونتيجة لاضطراب الأخير وهيجانه ينكسر الرقم الحجرية التي تعين على اجتياز البحر المميت. ومياة الموت راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجداف ينفع. لأن مياه البحر حين تصل إلى يد المجدّف ستقتله لا محالة.
يقترح الملّاح فكرة جيّدة للعبور؛ إذ يأمر (جلجامش) أن يحتطب مئة وعشرين شجرة يصنع منها ستين مجدافًا، وحين يلج قاربهما بحر الموت يجدّف جلجامش بمجداف من المجاديف الستين، يدفع القارب مرة واحدة ويُفلت المجداف بعد الدفع إلى الماء لئلا تمسّ يده ما علق عليه من ماء قاتل، ويستخدم مجدافًا آخر، وهكذا إلى أن يصلا.

ألا تقول ملحمة البحث عن الخلود هُنا أن بوسع البشر عبور البحار الراكدة المميتة، والتشبث بآمال الوصول عن طريق تغيير المجاديف كلما اقترب الخطر.
نعم، لا يُعبر النهر مرتين، لكن المجاديف المتكسرة لا تُغرقنا والمجاديف المبتلّة بالركود المميت لا تقتلنا ما دام بوسعنا احتطاب الأمل، وإفلات كل أمل مميت، والتجديف بآخر…

أَزيدَ في الليل ليلُ؟

يتفرّس الليل في وجه حزني، والحزن يحرّض كل شعور قاتم: شعور العجز، شعور الحسرات، شعور تأنيب الذات، وشعور حُرقة القلب على المظلومين الذين تتخطفهم أيدي السلطة ومناجل البطش…
يتفرّس الليل في وجه حزني، و”الحزن يولد في المساء لأنّه حزن ضرير” كما يقول صلاح عبد الصبور الذي قتله الحزن الضرير في ليلة خاض خلالها نقاشًا حادًّا مع رفيقه أمل دنقل الذي يقول عن حزنه: “أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي” دار ذاك النقاش بين صلاح ودنقل في بيت أحمد عبد المعطي حجازي الذي استفرد به الحزن حتى قال: “هذا الزحام لا أحد” وفي قصيدة أخرى يقول: “أنا هنا لا شيءَ، كالموتى، كرؤيا عابرة. أجرّ ساقي المجهدة”
في تلك الليلة اتّهم أمل دنقل رفيقه صلاح عبد الصبور بالخيانة، لأنه قبل منصب وزارة الثقافة في حكومة السادات القمعية الخائنة، فخوّن أمل دنقل رفيقه حتى خانته حياته، فمات ما أن عاد إلى بيته، مات ميتةً تفضح تغوّل السلطات فينا، تغوّلها بيننا وبين أصدقائنا، بيننا وبين نفوسنا أيضا، تغوّلها في سخطنا ورضانا، في فشلنا ونجاحنا، في سعادتنا وأحزاننا، وفي زهونا وعارنا…
يتفرّس الليل في وجه حزني، حزني على كل نكبات هذا العالم المنكوب بنا، المنكوب بالبشر “حزنٌ يسدّ فضاء الرئة” كما يقول محمد الثبيتي الذي رحل عن العالم ليلة رحيل بن علي من تونس. رحل الثبيتي في تلك الليلة التي سمعت فيها الشعوب صوتها لأول مرة فقالت: (الشعب يريد)، تلك الليلة التي آمنت فيها الحشود بذاتها وبنصيبها من الشمس والهواء والحرية والربيع، الربيع الذي وُلِدَ حينذاك فأوهمنا بإنّه جاء ليمحو سنين الجدب والخوف… وصدّقناه بسذاجة، فبدأ في تصفية أحلامنا بحنكة قاتل متسلسل يقتلنا بشعور العجز ويكتم أنفاسنا ويصادر الهواء، ولا يُبقي لنا إلا “حزنٌ يسدّ فضاء الرئة”

يتفرّس الليل في وجه حزني، هذا الحزن اليومي، الأزلي، الأبديّ على كل نكبات العالم المنكوب بنا، المنكوب بالبشر، المنكوبة فيه، المنكوبة معه بحزني، بحمولات حزني التي لا تُنقِص من حزن العالم أي شيء…

ماركيز والسينما

كان ماركيز شغوفًا بالسينما، مفتونًا بها منذ طفولته يتذكر في كتابه (قصص ضائعة) جيشان الفضول الطفوليّ الذي دفعه إلى أن يُطالب ككل الأطفال بالذهاب إلى ماوراء الشاشة لرؤية أحشاء هذا الاختراع المبهر، وكانت دهشته عظيمة حين لم يرَ شيئًا سوى الصورة ذاتها مقلوبة. لكنه لم يفقد شغفه وانبهاره. كبر ماركيز وسافر إلى روما ليتعلم أسرار المخرج الإيطالي (زافاتيني)، عاد بعدها إلى كولومبيا وكتب في النقد السينمائي مخالفًا رغبات دور العرض التي كانت تفرض على الصحف أن تكتب نقدًا مهادنًا وإلا ستسحب إعلاناتها، كسب ماركيز المعركة فكتب نقدًا صادقًا رفضته دور العرض في البداية ثم رضيت به وتقبلته. فيما بعد اتّجَه ماركيز نحو المكسيك يدفعه شغفه بالسينما إلى محاولة المساهمة في صناعتها، فحاول أن يكون مخرج أفلام، لكنّه اكتشف أن اختلاق العوالم في السينما أصعب من اختلاقها في الأدب، يقول: “أدركت أن هناك حدودًا في القالب السينمائي لا توجد في الأدب، وأصبحت مقتنعًا أن عمل الروائي هو أكثر عمل حُرّ على وجه الأرض فأنت هنا سيد نفسك تمامًا”
ولذا صرف النظر عن العمل كمخرج وبدأ في كتابة سيناريوهات لأفلام قال إنه لم يتعرف عليها حين شاهدها على شاشة العرض بعد ذلك. عن تلك التجربة يحكي ماركيز قائلًا: “وحتى بعد أن كتبت سيناريوهات لم أكن أتعرف عليها فيما بعد على الشاشة، بقيتُ على قناعتي بأن السينما ستكون صمّام الأمان الذي سأفلتُ منه أشباحي، وقد تأخرتُ زمنًا طويلًا للتوصل إلى القناعة بأنّ الأمر لن يكون كذلك. وفي صباح يوم من أيام تشرين الأول ١٩٦٥م وكنتُ مُرهقًا من رؤية نفسي وعدم التعرف عليها جلستُ مقابل الآلة الكاتبة، مثلما كنت أفعل كل يوم، ولكنني لم أنهض في تلك المرة إلا بعد ثمانية عشر شهرًا ومعي الأصول الناجزة ل(مئة عام من العزلة) فأدركت أثناء ذلك العبور للصحراء أنه ليس هنالك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لابتداع العالم”
بعد هذه التجارب لخّص ماركيز علاقته بالسينما قائلًا: “علاقة زواج غير موفق. بمعنى أنني غير قادر على العيش دون السينما وغير قادر على العيش معها”

في رواية (مئة عام من العزلة) التي كتبها ماركيز حين كان يحاول كتابة سيناريوهات أفلام تظلّ شبيهة بذاتها حين تخرج من حيّز الورق إلى حيّز الصورة، يحكي ماركيز حدثًا لا يُنسى يتعلق بالسينما، حين بدأت الاختراعات تتوافد على قرية (ماكوندو) وتُبهر الأهالي بسحرها حتى صاروا لا يعرفون من أين تبدأ الدهشة. كانت (السينما) إحدى هذه الاختراعات التي فتنتهم بسحرها، انبهروا بالحياة الموازية التي انعكست فيها، فدفعوا أموالًا لشراء التذاكر كي يشاطروا أبطال الأفلام معاناتهم، في أحد الأفلام شاهدوا رجلًا يموتُ ويُدفن فبكوا عليه وتأثروا بمعاناته، لكنهم شاهدوا الرجل الميت يظهر في فيلم آخر وقد عاد إلى الحياة وكأنه لم يمت وكأنهم لم يبكوه من قبل، شعروا بمرارة الخديعة التي تعرضوا لها، عبّروا عن سخطهم بتكسير المقاعد… فاضطر العمدة أن يقدّم لهم إيضاحًا شرحَ فيه أن السينما ليست حقيقية بل آلة وهم. وحيال هذا الإيضاح المخيّب للآمال قرّر الأهالي الامتناع عن الذهاب إلى السينما فلديهم مايكفي من الأحزان ولا حاجة بهم لأن يبكوا نكبات مصطنعة لكائنات وهمية. اكتفاء أهالي (ماكوندو) بحياتهم وأحزانهم الحقيقية يتقاطع مع اكتفاء ماركيز بعوالمه السردية التي يعرفها جيدًا حين يبتدعها على الورق، لكنّه يُنكرها حين تتنازعها أيدي الممثلين والمخرجين والمنتجين… تمامًا كما أنكر أهالي القرية وجه فقيدهم، الممثل الذي بدّد حزنهم بين أكثر من فيلم وأكثر من حكاية.

ذكريات نديّة عن جدب الأمنيات

من سيرة المغني المغربي العربي باطما، في الجزء الذي عنوَنه بـ(طي الضلوع القبيح) وحشد فيه ذكرياته المُرّة، يقول عن الفقر: “أذكر في يوم، ونحنُ بالقسم، وكان ذلك في السنة الثانية ثانوي، كان الدرس عن الطبيعيات، فقالت لنا أستاذة عراقيّة بأنّ على أيّ شخص وهو يأكل أن يلوك اللقمة في فمه ثلاثين مرة على الأقل، ليتسنى للمعدة عملها الهضمي. فرفعتُ إصعبي، وقلتُ لها: يا أستاذة إنّ عائلتي تتكوّن من عشرة أنفار وعندما تطبخ أمّي طاجين (لبطاطا واللحم) تمتد الأيادي إلى الإناء وتعمّ الفوضى، فإذا لُكتُ اللقمة ثلاثين مرة فإنّي لن أجدُ شيئًا في الإناء… وضحك الطلبة، ووافقوني على ذلك لأننا كنّا نُعاني نفس المشكل العائلي. ولم تجد الأستاذة بُدًّا من طردي سبعة أيام، وكانت تلك أول مرة أُطْرَد فيها… لقد مضى ذلك الزمن. أنظرُ إليه الآن من فوق، وأراه في وسط مستنقع الزمن كشيء ثابت لا يتحرّك. وقد أبتسم”

حين قرأت هذا المقطع من الكتاب، استدعى ذهني ذكرى أختين فقيرتين من زميلاتي في مدرسة القرية، زاملتهما قبل حوالي ستة وعشرين عامًا، تذكّرني بهما سيرة الفقر، والفقر مؤذٍ دائمًا، لكنه يصير قاتلًا حين يشذّب رغبات الأطفال. أتذكرهما الآن، فأراهما وسط مستنقع الزمن كشيء ثابت لا يتحرّك، ولا أبتسم. أتذكّر حين يصيبهما الزكام فترافقهما منشفة مربّعة كُنّا نضحك كلما أخرجتها إحداهما من الدرج لتمسح أنفها. عرفتُ في وقت متأخّر أنّ سعر المناديل الورقية كان يسبب عجزا في ميزانية الأُسرة الفقيرة العاجزة عن اللحاق بالمتطلبات الأساسية لا الكماليات. أتذكر الأختين جيّدًا، إحداهما طويلة ونحيلة، والأخرى في طولها أيضا لكنّها بدينة. في الصف الثاني الابتدائي، كانت معلمة العلوم تشرح درس النمو، تقول إننا ننمو جميعًا ونعتقد أنّ ملابسنا تضيق وتقصر علينا، والحقيقة أننا نحن من يطول ويكبر… قالت المعلمة لتقرّب فكرة النمو من أذهاننا: “مريولك وجزمتك حقة هذه السنة هل هي نفسها حقة العام؟ لا طبعًا… لأنكم كبرتوا” فاستدركتْ الأخت البدينة على كلام المعلمة بكل براءة وعفوية، قالت إنها ترتدي مريولها القديم وحذاء السنة الماضية. أتذكّر الموقف بتفاصيله الصغيرة، فقد نظرت في تلك اللحظة إلى حذائها، وكانت قدمها الكبيرة تنحشر فيه، فصار ممزقًا من الأمام تبدو مقدمته كفمٍ ضاحك يكشف أصابع قدميها…

حدث هذا في مدرسة القرية، حيث لم نعرف الفروقات الكبيرة ولا الطبقية الجلية، كنت أعيش مع خمس أخوات في بيت من غرفة واحدة وصالة، وأتذكر أن المدرسة طلبوا مني ملء استمارة بيانات تفصيلية من ضمنها سؤال عن الحالة المادية، كان عمري سبع سنوات وأختي الأكبر مني تساعدني في ملء الاستمارة، وصلنا إلى السؤال المتعلق بالحالة المادية للأسرة، فأجابت أختي: متوسطة… وما زلت أتذكر جيدًا صدمتي حينها، نعم، صدمة. فقد كنت أظن أننا أغنياء، كنتُ أظن أنّ أسرتي المتواضعة غنيّة جدًّا ومن أعلى مستوى، لأن الغالبية إن لم يكن الجميع كانوا في مستوانا المادي أو أقل… فالقرية لا تضمّ إلا قرطاسية يتيمة، ومحل ملابس وحيد، ولذا كانت حقائبنا شِبه موحدة، وأحذيتنا متقاربة الشكل والسعر، وكل ما نملكه لا يمنحنا زهو التميّز… فماذا عن الأطفال المحرومين اليوم؟ بمَ يشعرون في هذا العالم الذي صار فاترينة لمعروضات باهضة؛ سفريات منقولة مباشرة بالصوت والصورة، تسوّق موثّق بالتفاصيل، سنابات وفيديوات مشترياتي من كذا وكذا، ممتلكات تتبع نظام الموضة، فتصعد على منصة العرض المكشوفة للجميع ثمّ تتوارى سريعًا لتصعد الموضة الجديدة، والجميع يركض خلف الجميع… الجميع يركض ولا يصل. ما حال الأطفال الفقراء اليوم الذين يدهسهم هذا الركض؟ كيف يحتمل حرمانهم فيض هذه المظاهر؟

يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته” لكنّ الفقر لا يتمثل في صورة رجل، ولا عدة رجال ولا حتى في صورة جيش بربري كاسح. الفقر مأتم أزلي، مأتم المباهج والأمنيات، مأتم الطفولة ونداوتها، ولا توجد حيلة لتفادي وجع المآتم.

حين أقف على باب هذا المأتم أتذكر (لطيفة) زميلة طفولة عرفتها في مدرسة القرية أيضا، كنتُ أراها طوييييلة جدًا، وكبيرة جدًا، ولا أعلم إن كانت كذلك فعلًا؟ أم أن ذاكرتي تتبع قوانين الطفولة حين كانت الأشياء تبدو دائمًا أكبر من حقيقتها، وأهون من حقيقتها أيضا.

(لطيفة) بنت سمراء تدرس في الصف الثالث، في الوقت الذي كنتُ فيه الطالبة الأقصر قامة بين طالبات الصف الأول الابتدائي، بنية جسدي الصغير أغرتها بأن تحملني بين يديها وكأني طفلة في السنة الثانية من عُمري لتركض بي في ساحة المدرسة أمام بقية الطالبات. كانت تظن أنها تُلاعبني، فيما كنتُ أرى أنها تُهينني بهذا الفعل، تستصغرني، تحقّر وجودي. كنتُ أشتعل غضبًا، وغضبي يُعجبها، فتكرر فعلها دائمًا. ترفعني إلى الأعلى وتركض بي أمام بقية الطالبات، فأغرس أصابعي في شعرها الأكرت القصير وأشدّه بعنف حتى يخرج من (بكلتها) ويقف متيبسًا بشكلٍ بشع. حين تتعب من الركض بي، تُنزلني وتُحاول أن تُعيد ترتيب شعرها النافر. فألعنها وأشتمها بألفاظ عُنصرية تُذكّرها بسوادها وقُبحها وخشونة شعرها، وهي تضحك ولا تأخذني بجديّة أبدًا. في مرة من المرّات التي حملتني فيها وركضت بي في ساحة المدرسة، كنتُ كعادتي أغرس أصابعي في شعرها وأشدّه وأصرخ وألعنها والطالبات يركضن خلفنا ويضحكن. حتى وصل الضجيج إلى غرفة المعلمات، ففتحت إحداهن النافذة المطلّة على ساحة المدرسة، وشاهدت المنظر، فاستدعتنا، استمعت إلى تظلمي وشكواي. وخرجت من عندها، واستبقت (لطيفة) مثيرة الشغب. لا أعرف ما الذي دار بينهما، لكنّ (لطيفة) لم تحملني بعد ذلك أبدًا. أختي التي كانت تدرس في فصل (لطيفة) وتعرفها عن قرب، قالت لي وقت عودتنا في الباص الأصفر الكبير: “شفتِ الصنادق الحديد اللي جنب المدرسة؟ لطيفة فقيرة جدًا وساكنة هناك، حرام عليك تشتكينها عند الأبلات”

ظلّ كلام أختي يحرق قلبي في نيران التأنيب لفترة طويلة، ورُبما مازال دخان التأنيب منتشرًا في عتمة الذاكرة. الباص الأصفر الكبير كان يمرُّ دائمًا بجوار (الصنادق الحديد) أو بيوت الصفيح التي تقطنها (لطيفة). فأتذكر ضحكتها، وشعرها الأكرت وقد طار بشكلٍ بشع. وأشعر بغصة عميقة، وإحساس بالذنب أحاول أن أمحوه بأن أُبادلها الابتسامة كلما رأيتها، لكنها لم تعد تضحك لي، ولم تجرؤ على حملي والركض بي بعد ذلك اليوم أبدًا.

منذ سنين طوال لا أعرف عن لطيفة أي شيء، وددتُ لو أعرف طريقًا يؤدي إليها، لأخبرها أنّي ما زلتُ أشاهدها وسط مستنقع الزمن كشيء ثابت لا يتحرّك، ولا أبتسم ابتسامة العربي باطما حين يتذكر ماضيه، بل أحملها في صدري طوال هذه السنين، كما كانت تحملني من قبل…

نبوءات مخاتلة

كتبت إيزابيل الليندي لابنتها (باولا) حين نهشها المرض كتابًا تستدعي فيه ذكرياتها وماضيها، وتسرد فيه ما يفوت ابنتها المريضة من حاضرها الذي سرقتها منه غيبوبة طويلة. في الكتاب تحكي إيزابيل عن عرّافة أرجنتينية شهيرة التقتها في عشاء عائلي، فأخبرتها العرّافة بأربع نبوءات هي: “سيكون حمّام دم في بلادك. وستكونين مُجمّدة أو مشلولة لزمن طويل. صوتك الوحيد هو الكتابة. وأحد أبنائك سيكون معروفًا في عدة بقاع من العالم” سألت والدة إيزابيل العرّافة: “أيّهم” ثمّ أطلعتها على صورهم فأشارت العرّافة إلى صورة (باولا). تحققت النبوءات، حدث الانقلاب على حكومة سلفادور الليندي فسقطت البلاد في حفرة حكم عسكري دموي، ونُفيت إيزابيل من تشيلي، وتحققت النبوءة الثالثة طبعًا، فعاش صوت إيزابيل بواسطة الكتابة. أمّا النبوءة الرابعة التي تقول: “أحد أبنائك سيكون معروفًا في عدة بقاع من العالم” فقد كانت إيزابيل تتذكرها وقت مرض ابنتها، فتراها طريقًا للأمل، فتظن أن ابنتها ستستيقظ من غيبوبتها الطويلة، لتواصل مسيرة حياتها فتحقق الكثير ليعرفها العالم. تقول إيزابيل: “أفترض أن النبوءة الرابعة ستتحقق أيضا، ما يمنحني الأمل في أن أراك حيّة يا ابنتي. لم تُكملي قدرك بعد. ما أن نخرج من هذا المشفى فإني سأتّصل بهذه المرأة لأسألها عمّا ينتظرك”

ولم تعش باولا كما ظنّت أمّها، ماتت، لكن النبوءة تحققت. لم تقل النبوءة: “ابنتك ستعيش” بل “سيعرفها العالم” وقد صارت (باولا) معروفة في عدة بقاع من العالم، معروفة بموتها لا بما حققته في حياتها. معروفة بواسطة هذا الكتاب المأساويّ الذي كتبته أمها لتعينها على تذكر حياتها حين تستيقظ، فصار تذكارًا لفقدها وشاهدًا على موتها.

كل النبوءات مخاتلة، تحتمل الأمر وضدّه، ولذا تتحقق غالبًا.

عن النبوءات أيضا، يقول ماركيز في كتابه: (قصص ضائعة): “أشهر النبوءات هي تلك النبوءة التي تلقاها الملك كريسو الشهير بثرواته الطائلة، حين أراد أن يعرف إن كان يناسبه خوض حرب ضد مملكة الفرس الذين كانت مملكتهم على الضفة الأخرى لنهر هالديس. فردّ عليه الوحي في أوراكل: أجل يا كريسو، اجتز النهر لتدمّر مملكةً عظيمة. ‫فعل كريستو ذلك واندحر وتحققت النبوءة، إذ أنّه دمّر مملكته ذاتها، وكانت أعظم الممالك في زمانه.”

صورة جماعية لشخص وحيد

ذاك العاديّ المُكرر، ذو النسخ المتعددة والمتاحة، الواحد المضاعف في ملايين، الواحد الذي يساوي لا أحد، المعروف بأسماء حركيّة كثيرة تدلّ عليه وتحشر معه كثيرين غيره؛ كالعامة، السوقة، الرعاع، الأكثرية، الرأي العام، المجتمع، المواطنين، الحشد…

الذي يخرج كل صباح يرعى قطعان همومه، ولا يعرف أنّ الذين سرّحوا همومهم واستظلوا الراحة يصنفونه ضمن القطيع.

المُدرج ضمن قصائد لا يعرفها، لأنّ القصائد لا تعرف اسمه، فتستعير صوته المنسي، وتستدل عليه بمكابداته.

ذاك الذي لا يدخل في إحصائيات مرضى الاكتئاب، لأنّه يركض طوال اليوم، ولا يملك ترف الوقوف لوصف السواد، فضلًا عن ترف الجلوس على كرسي عيادة الطب النفسي، هو الذي بالكاد يسترق من وقته وقتًا ليصطف في طابور صرف أدوية السكر والضغط في المستوصف الحكومي البغيض.

الذي يأكل بنهم حين تعدّ زوجته الطعام، ويقبض يده ويشحُّ على نفسه حين يشتري لأولاده الطعام، حتى لا يحاصصهم في اشتهاءاتهم.

الذي يقرأ الصحيفة من الخلف، لأنّه لا يعرف انتصارات غير انتصارات فريقه الرياضي، ويقرأ الصحيفة من الأمام إذا تواترت الأنباء والإشاعات عن معونة حكومية قادمة.

يُعيد تدوير النكات التي تصل إلى هاتفه عشرات المرات في عشرات المحادثات، فالضحك مازال مجانيًا، وإن حاولوا فوترته.

الذي يُرمز إليه برقم سجل مدني، ورقم وظيفي، ورقم إحصائي، ونسبة مئوية، ولا يُكتب اسمه بحبرٍ رسمي إلا في رؤوس أوراق الفواتير.

الذي لم يتحقق بعد من المعلومة الموروثة التي تقول: (للجدران أذان) لأنّه لم يختبرها ولم يجرّب صوته أصلًا.

الذي لا يعنيه من بث الخطابات الرسمية إلا نهاياتها التي تعلن عن بدء برامجه المفضلة، ولا يعنيه من إعلان الموازنة العامة إلا الدين العام الذي يستدينه الخاصة ويسدده العوام.

الذي يُتابع نشرات الأخبار ليبني رأيه السياسي وفق ما يقوله المتحدث الرسميّ، ويتابع إحصائيات الدمار ومشاهد الحرب من خلف الشاشة، فيظنّها ستظل هناك نائية إلى الأبد ولن تصل إليه… وحين يقتطع المحاربون جزءًا من دخله لإنعاش الحرب، فتتعالى عليه الأسعار، وتتمادى الفواتير… ينظر إلى الآخرين البعيدين الذين ينزفون خلف الشاشة، فيرضى، ظنًا منه أن النزيف سيظلّ هناك ناءٍ إلى الأبد، ولن يصل إليه. دون أن ينتبه لحرب الاستنزاف التي يخوضها منذ أن وُلِد. يخوضها دون أن ينتصر، دون أن ينهزم، دون أن ينسحب… يخوضها حتى ينضب تمامًا، تمامًا…