في مجلة العربي عدد يناير ٢٠٠٢ نشرَ جابر عصفور مقالًا عن أستاذته سهير القلماوي، التي بلغ امتنانه لها وتأثره بها أن سمّى ابنته على اسمها.
يحكي جابر عصفور في المقال عن مواقف أستاذته معه من جانبين: جانب أكاديمي، وجانب إنساني.
في الجانب الأكاديمي يكشف عن خطواته الأولى في طريق البحث العلمي، وتهيّبه من كتابة البحث، وثقته واندفاعه وقلّة خبرته. إذ سلّم أستاذته الفصل الأول وهو يشعر بالزهو والإنجاز الذي يشعر به الطالب المبتدئ الذي لم يدرك بعد مدى اتساع جهله. مزّقت أستاذته أوراق الفصل الأول وأعطته قائمة بمراجع ينبغي عليه قراءتها قبل أن يشرع في الكتابة مدفوعًا بحماسة البدايات، وثقة الجاهل، وأحكامه المسبقة.
بعد هذا الموقف انتابته الوسوسة حتى أصابته حُمّى التمزيق، وكلما توسّع في القراءة والإطّلاع شعر بإتساع مساحة جهله فتراجع عن ما كتب… حتى صارت أستاذته سهير تُخبّئ الفصل الذي ينتهي من كتابته في درج مكتبها وتُغلق عليه بالمفتاح وتطلب منه أن لا يستمر في البحث عن الكمال وأن يبدأ في كتابة الفصل الذي يليه وهكذا…
وظلّت عذابات الكتابة وإعادة الكتابة مرّات ومرّات تُلازم الطالب جابر عصفور حتى في مرحلة بحث الدكتوراه، وظلّت أستاذته ترفض أن تُعيد له الفصول التي ينتهي من كتابتها لتمنعه من إعادة الكتابة من جديد بحثًا عن شعور الرضا.
يقول: “حاولتُ إقناعها بأن أحتفظُ أنا بالفصلين فلم تقتنع، وحكتْ لي ملخص إحدى روايات الروائي الفرنسي إيميل زولا وهي عن رسّام شاب أراد أن يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واحدة بلوحة تُقيم الدُنيا ولا تُقعدها في معرض الفن الحديث. وحبسَ نفسه مع الموديل التي كانت تحبّه، وظلّ يرسم ويمحو ما يرسم وطال الوقت، بل مضى الوقت، وافتتح المعرض وهو لم يفرغ بعد، ومَنّى نفسه بالمعرض القادم، فالمهم أن يُنجز ما لم يُنجزه أحد من قبل، ومرّ معرض ثانٍ وثالث ورابع، واللوحة لا تكتمل، والرسام المسكين يدخل في دوامات الجنون تدريجيًا، إلى أن انتهى به الأمر إلى تمزيق اللوحة بسكين كشط الألوان، وتمزيق جسد حبيبته الموديل، ثمّ انتحاره بعد ذلك”
وعلّقت أستاذته على هذه القصة التي روتها بقولها: “لا يُمكن الوصول إلى الكمال، الكمال مثل أعلى نسعى إليه طوال العُمر. حسبنا أن نقوم في كل مرة بواجبنا حسب قدراتنا التي نصل بها إلى أقصى ما نستطيع من عملٍ وجهد. وكل مرّة ننجزُ فيها شيئًا نتعلّم من إنجازنا، ونقتربُ بهذا الإنجاز من الكمال الذي يتباعد عنّا بقدر اقترابنا منه. كأنّه يُريد أن يدفعنا إلى الصعود…”
عن الجانب الإنساني في علاقة الأستاذة بتلميذها يقول الدكتور جابر عن أستاذته: “اكتشفتُ في سهير القلماوي خلال ذلك الوقت أُمًّا حنونًا إلى جانب الأستاذة، فكانت أمّي التي ذهبتُ لأخذ موافقتها عندما قررتُ أن أخطب زميلتي التي أحببتها وأصبحتْ زوجتي وأمّ أولادي ورفيقة العمر إلى اليوم وشجعتني سهير القلماوي على أنْ أمضي فيما فعلت، بل قامت بدور الأمّ فعلًا وكانت كذلك في حفل الزفاف الصغير الذي أقمناه، بل كانت الأم التي تلقّت ابنتي الأولى التي أطلقنا عليها أنا وزوجتي اسم (سهير) وأصبحت أستاذة جامعية اليوم ولا تزال تذكّرنا بأستاذتنا التي ندينُ لها بالكثير”
….
لقراءة مقال جابر عصفور: هُنا