عبور آمن

ينطلق (جلجامش) في رحلته الطويلة للبحث عن سِرّ الحياة وحقيقة الموت وأمل الخلود، فيصل إلى الجبال التي تحرس ذُراها المتقابلة الفوّهة التي تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، يجتاز ممرّ الشمس السفلي في طريقه إلى الطرف الآخر من العالم، ويجد ذاته على شاطئ بحر الموت الذي يفصله عن جزيرة الحكيم الخالد (أوتنابشتيم)، يلتقي في هذا المكان بملّاح الحكيم يحتطب من أجل سيده العارف بسرّ الخلود، هذا الملّاح هو الوحيد الذي بوسعه إعانة (جلجامش) على عبور بحر الموت. ونتيجة لاضطراب الأخير وهيجانه ينكسر الرقم الحجرية التي تعين على اجتياز البحر المميت. ومياة الموت راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجداف ينفع. لأن مياه البحر حين تصل إلى يد المجدّف ستقتله لا محالة.
يقترح الملّاح فكرة جيّدة للعبور؛ إذ يأمر (جلجامش) أن يحتطب مئة وعشرين شجرة يصنع منها ستين مجدافًا، وحين يلج قاربهما بحر الموت يجدّف جلجامش بمجداف من المجاديف الستين، يدفع القارب مرة واحدة ويُفلت المجداف بعد الدفع إلى الماء لئلا تمسّ يده ما علق عليه من ماء قاتل، ويستخدم مجدافًا آخر، وهكذا إلى أن يصلا.

ألا تقول ملحمة البحث عن الخلود هُنا أن بوسع البشر عبور البحار الراكدة المميتة، والتشبث بآمال الوصول عن طريق تغيير المجاديف كلما اقترب الخطر.
نعم، لا يُعبر النهر مرتين، لكن المجاديف المتكسرة لا تُغرقنا والمجاديف المبتلّة بالركود المميت لا تقتلنا ما دام بوسعنا احتطاب الأمل، وإفلات كل أمل مميت، والتجديف بآخر…

أَزيدَ في الليل ليلُ؟

يتفرّس الليل في وجه حزني، والحزن يحرّض كل شعور قاتم: شعور العجز، شعور الحسرات، شعور تأنيب الذات، وشعور حُرقة القلب على المظلومين الذين تتخطفهم أيدي السلطة ومناجل البطش…
يتفرّس الليل في وجه حزني، و”الحزن يولد في المساء لأنّه حزن ضرير” كما يقول صلاح عبد الصبور الذي قتله الحزن الضرير في ليلة خاض خلالها نقاشًا حادًّا مع رفيقه أمل دنقل الذي يقول عن حزنه: “أتصبب بالحزن بين قميصي وجلدي” دار ذاك النقاش بين صلاح ودنقل في بيت أحمد عبد المعطي حجازي الذي استفرد به الحزن حتى قال: “هذا الزحام لا أحد” وفي قصيدة أخرى يقول: “أنا هنا لا شيءَ، كالموتى، كرؤيا عابرة. أجرّ ساقي المجهدة”
في تلك الليلة اتّهم أمل دنقل رفيقه صلاح عبد الصبور بالخيانة، لأنه قبل منصب وزارة الثقافة في حكومة السادات القمعية الخائنة، فخوّن أمل دنقل رفيقه حتى خانته حياته، فمات ما أن عاد إلى بيته، مات ميتةً تفضح تغوّل السلطات فينا، تغوّلها بيننا وبين أصدقائنا، بيننا وبين نفوسنا أيضا، تغوّلها في سخطنا ورضانا، في فشلنا ونجاحنا، في سعادتنا وأحزاننا، وفي زهونا وعارنا…
يتفرّس الليل في وجه حزني، حزني على كل نكبات هذا العالم المنكوب بنا، المنكوب بالبشر “حزنٌ يسدّ فضاء الرئة” كما يقول محمد الثبيتي الذي رحل عن العالم ليلة رحيل بن علي من تونس. رحل الثبيتي في تلك الليلة التي سمعت فيها الشعوب صوتها لأول مرة فقالت: (الشعب يريد)، تلك الليلة التي آمنت فيها الحشود بذاتها وبنصيبها من الشمس والهواء والحرية والربيع، الربيع الذي وُلِدَ حينذاك فأوهمنا بإنّه جاء ليمحو سنين الجدب والخوف… وصدّقناه بسذاجة، فبدأ في تصفية أحلامنا بحنكة قاتل متسلسل يقتلنا بشعور العجز ويكتم أنفاسنا ويصادر الهواء، ولا يُبقي لنا إلا “حزنٌ يسدّ فضاء الرئة”

يتفرّس الليل في وجه حزني، هذا الحزن اليومي، الأزلي، الأبديّ على كل نكبات العالم المنكوب بنا، المنكوب بالبشر، المنكوبة فيه، المنكوبة معه بحزني، بحمولات حزني التي لا تُنقِص من حزن العالم أي شيء…