ماشي الحال

أشعر بثقب في القلب، بعراء الأمكنة حين يُجتث منها أجمل مافيها، الناس والشجر والأُنس والحياة… لكنّ القلب امتلأ ثقوبًا ورتوقًا منذ زمن، اهترأ حتى صارت شقوقه منه، لم تعد طارئة عليه… ولذا (ماشي الحال)

كنتُ دائمًا أدنى من الحُب، أبعد من النسيان، أقف في مُنتصف المسافة، يفوتني غموض البدايات وسحرها، ولا أعرف راحة الوصول… لكن (ماشي الحال)

مُرغمة على الجلوس في المقعد المقابل للزمن، بفعل السأم والوحدة أماشي ألاعيبه أحيانًا، اتظاهر بتصديق مباهجه، لكنّي لا أصدّق، لا يحتال عليّ الزمن… لقد انكشفت أوراقه لي بعد أن غلبني كثيرًا. ولذا (ماشي الحال)

عرفتُ الخوفَ من الإقدام، عرفتُ الخوف من الإعراض، وعرفتُ الخوف من الاستمرار… تآلفتُ مع الخوف، والتآلف نقيضه، فقدَ الخوف وظيفته، روّضته ككلب حراسة يربض على بابي وينبح في وجه الخيبات… و(مشى الحال)

تطاردني الأسئلة، تخوض صراعاتها في أرضي لتصدّ عن قلقها طمأنينة الإجابات. تُدميني هذه الصراعات. لكنّي لا أستنجد بمن حرّضها عليّ، ولا أتحالف مع القادرين على إبادتها. أستسلم فقط حتى يمرّ الوقت فتخمد النار (ويمشي الحال)

أفتقدُ وأحنّ، وهذا الباب الذي لا يلمسه أحد، لا يطرقه أحد، ولا يمر عبره أحد… يموت واقفًا متجذرًا في الوحشة، فيتذكر ماضيه الحزين حين كان شجرة ميّتة أعياها وقوفها الطويل لتشهد على مواسم الجدب. لكنّ صمت بابي لا يزعج أحدًا سواي، شعوري بالفقد والحنين لا يلمس أحدًا سواي، ولذا لا أستدعي ولا أستدني أحدًا مهما ألح الحنين، لأنه (ماشي الحال).

قصة الخلق

(١) الكينونة:
في الْبَدء كانتْ الكلِمة، وكانت الكلمة بيدِ الله، كُلُّ شَيءٍ بِهِ كان، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ مِمَّا كان.
من الكَلِمة كانَ الإِنسان، من كلمة: “كُن” انبثقتْ كينونته، لكنّها كانتْ بكماء غير قادرة على إثبات وجودها، فمنحها الله (الكلمة) كي تقول: أنا هٌنا. لولا الكلمة لما كانت، لكنها ظلّت عمياء عرجاء. وبواسطة منحة الكلمة قالتْ الكينونة: بدّد ظُلمة عيني يا الله وأقمْنِي على قدميّ لأسلك الطريق. فخلق الله (الحُريّة) لأجل تضرّعات الكينونة، وبِهَا أبصرتْ واستبصرتْ، واستقامتْ على قدميها ونبتَ لنا جناحان.

٢) الحريّة:
في البدء كانت الأرض، وكانت الأرض بيدِ الصمت. من أنين أحد المطحونين تحت أقدام الأقوياء انبثق الصوت، جال الصوت يبحث عن حنجرة، فاستقرّ في حنجرة امرأة كانت تجول العالم بلا خوف وتجرّب صوتها في الأصقاع، كلما نطقت تدنو منها السماء، حتى امتزجت بها فجعلتها نبيّة، أكملت هذه النبيّة جولتها في العالم وهي تُبشّر الخلق بأول دين ينهى عن العبادة. تلك النبيّة اسمها (حريّة)

٣: (السِجن)
في البدء كان الربيع، وكان الربيع بيد الثوّار والأزهار. مع كلّ هتاف يخضّر غُصن، مع كل لوحة احتجاجية تنبت زهرة، مع كل شهيد يسقط يفرُّ عصفور من اليد ويعلو الشجرة.
اكتملت الحديقة، أو كادتْ تكتمل. كان ينبغي أن تكون مُستراحًا للثوّار، لكن الحارس القديم اشتراها، الحارس المطرود الذي يهوى العبث بالممتلكات العامة كَسَر الأغصان، داس الأزهار، والعصافير التي كانت على الشجرة تلتمس منه أن يُعيدها إلى اليد في أسوأ الأحوال لعلّها تصدّق أنها خير من عشرة على الشجرة، لكنّ الحرس القديم احتطبوا فروع الشجرة، الشجرة تلتمس منهم أن يصنعوا من جذعها مقعدًا في حديقة ليأنس بصحبة الأشجار ويتذكر حياته الأولى، لكنّهم أصرّوا على أن يصنعوا من جذعها التوابيت. ونقلوا العصافير من الشجرة، إلى قبضة اليد، ثمّ إلى صلابة القفص… ومن ذلك القفص انبثقت فكرة السجن أولّ مرة.