توالد الحكايات

hqdefault.jpg

 

يقتل الكُتّاب أبطالهم في سطر أو سطرين، لا يستغرق الأمر سوى عدة كلمات تُجهز على الشخصية التي عاشت مئات الصفحات من قبل، فيموت الأبطال وتعيش الحكاية. يكتبُ الرواة أحيانًا عن أبطال مثلهم، رواة آخرون داخل النص، فتلد الحكاية حكايات متداخلة، يعيشُ أبطالها ويموتون مسلوبي الإرادة. في رواية (رجل في الظلام) يكتب (بول أوستر) عن راوٍ يقاوم الأرق بكتابة قصة عن أمريكا التي تتمزق في حرب أهلية، في داخل الحكاية يستيقظ رجل بعيدًا عن مدينته وزوجته وبيته، فيجد نفسه في معمعة حرب لا يعلم كيف دخل إليها، ولصالح مَن يُقاتل؟ ثمة قوة أعلى تتحكم في مصيره، قوة الراوي الذي ابتكره. فهو مجرد شخصية تعيش في رأس شخصية أخرى تحبسه في كل هذا الدمار. لا يقف الاستلاب هُنا، إذ تنبثق في النص جماعة تأمر البطل بقتل الراوي لتنتهي الحرب، لا يستجيب فيصير مُطاردًا ومُهددًا بالقتل من قِبَل هذه الجماعة، حين يسأل لمَ هو تحديدًا من يتوجب عليه قتل الراوي؟ يكون الجواب: لأنك بطل القصة ولا يُمكن لغيرك أن يقوم بهذه المهمة.

تكشف الرواية عن أزمة الفرد الذي يخوض حروبًا لم يفتعلها، ويسير وفق مصير عبثي لم يقرره لذاته. فالذين يفتعلون الحروب هم آخر من يكتوي بنارها. وحين يتمرد البطل على دوره يموت فجأة في مهمته الأخيرة إذ تسقط عليه قذيفة لم تستغرق من الكاتب إلا سطرًا على ورق.

في (الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني تلد الحكاية حكايات أخرى. لكن بشكل مغاير، أبطال النصّ هم من يتحكم في مصير الراوي (سهل الجبلي) الذي يُفاجأ في أحد الصباحات بـ(مسعود الهمذاني) بطل روايته يزوره في مقر عمله بالبنك ليطلب قرضًا ضخمًا يمكنه من سداد الديّات وإنهاء الحرب التي افتعلها الرواي. يقول (سهل) متنصلًا من مسؤوليته: “كيف تتأكد من قدرتك على السداد، ومن يضمنك في هذا؟” ففواتير الحروب تُدفع دائمًا من معيشة ضحاياها، لكن أبطال الدميني يستغلون فراغات النص، ويؤولونه بطريقتهم، فيختطفون الكاتب، ويسجنونه في مغارة. يتناص السجن في رواية (سهل) مع السجن في واقعه، يتذكر أحلامه الماضية، والتنظيم الذي عمل لصالحه فانتهى سجينًا تختنق أحلامه في غرف التحقيق، يُفكّر في الرواية التي كتبها فصار أسيرًا لأبطالها. يتساءل عن آماله وأبطاله وعمله وحياته: “ما الذي يتبقى لي الآن؟ دفعتُ الثمن من عمري في الزنزانة الانفرادية، وحين قررتُ أن أكتب قصة عزّة لأصوغ شخصياتها وأحداثها حسب إرادتي اختطفني أبطال النص وأودعوني المغارات، وها هو مسعود يسرق قطيع الغنم لتكتمل إدانة البنك لي بتهمة تبديد أمواله أو تهمة الاختلاس” فقد دخل الراوي إلى عالم من ابتكاره لكنه عجز عن الخروج منه، أراد أن يُعبّر عن ذاته فأضاع ذاته في دهاليز الفكرة وتداعياتها، فأبطاله ينتفعون من غموض النصّ ويؤولونه لصالحهم، الغموض الذي خلّف فراغات اضطرارية لأن التعبير الصريح لا يُحرّر أحدًا في عوالم القمع، بل يحبس الناس في تداعياته. فيضيع (سهل) كشخص دخل  إلى عوالم أحلامه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فصار حبيسًا في مدافنها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s