جففت الحياة اليومية رأس الكاتب فهاجرت من عقله الحكايات، وكلما تلقى إتصالًا من الناشر يسأله عن مسار روايته الجديدة يزداد نزوح الأفكار.
كان في بداياته يلتقط الحكاية من ظلال الماضي، ومن أحاديث الناس، من طاولات المقاهي، من الأرصفة، من برامج الواقع، من تعليقات الإنترنت، من صفحة الوفيات… أمكنة لا تُحصى، ومخزون غزير. لكنّه منذُ جعل ظهره دعامة لصخرة اليأس الثقيلة التي أوشكت على الانهيار فوق كامل جسده، صار مُثقلًا عاجزًاعن الركض خلف الحكايات؛ يتجنب استعادة الماضي كي لا يُحرّض سعار الحنين، صار الاستماع إلى أحاديث الناس مشقّة لا يستطيع مكابدتها، فضّل العزلة على ضجيج المقاهي، لم يعد يخرج إلى الشوارع ليتسكع على الأرصفة حين صارت خُطى العابرين عليها تؤلمه وكأنهم يمشون على صدره بحمولاتهم الثقيلة من الهموم والأحزان، ولم يعد قادرًا على استيعاب تزييف الواقع في برامج تلفزيون الواقع فصار مهتمًا ببرامج الواقع التي لا تُسمى بهذا الاسم، اسمها المُعلَن هو (نشرات الأخبار) ويتابعها لأنها الشيء الوحيد الذي يمنحه الأمل بنهاية العالم.
حدث كل هذا حين كان الناشر لا يكف عن معاودة الإتصال به، رغم الحكايات التي اختارت الذهاب بلا عودة، والفواتير التي تتكدّس تحت باب شقته… كان يدرك أن طريقة الإنقاذ الوحيدة هي العودة إلى الوظيفة، وظيفة الكتابة غير الوظيفية، الكتابة التي لا تفعل شيئًا سوى ملاحقة الواقع بدلًا من تغييره… لا بد أن يكتب حكاية، أي حكاية، لا بد أن يُنقذ وضعه المادّي، وأن يحصد نجاحًا قد يعينه على ترميم سقف طموحاته والخلاص من الصخرة الثقيلة التي جعل ظهره دعامةً لها، ولا خلاص إلا بالعودة إلى هذه الوظيفة المترفة، وظيفة الكتابة غير الوظيفية، التي لا تُسمّى بهذا الاسم، اسمها المُعلَن هو: (كتابة إبداعية).
على طريقة أرخميدس الذي وجدها في مغطس الماء، وجدها الكاتب في مغطس الدماء. قرر أن ينقل شريط الأخبار من الشاشة إلى مسوّدة كتابه، مكث يومين أمام التلفاز يدوّن مايسمعه من أنباء، شذّب أخبارًا كثيرة، وبنى روابطًا فيما بينها ليكون لها نسيج متماسك… بعد عمل مستمر وجهد كبير أرسل أوراقه إلى الناشر اللحوح، كان يشعر بجلاء عتمة همومه ويتوهم زوال شعوره بالإفلاس الإبداعي والمادّي.
فيما كان يجدول مصروفات الشهر بحسب العائدات المتوقعة من بيع الكتاب، اتصل به الناشر، كان الإتصال الوحيد الذي لم يبعث في نفسه الرعب منذ شهور. فتلقّى المكالمة وقد هيأ نفسه للمفاوضة على حقوق النشر… لكنّ الناشر لم يمهله وقتًا لحشد حجج التفاوض، إذ صفعه بقوله: نعتذر عن نشر عمل بهذه الركاكة، فالعمل بعيد عن الواقع ومليء بالمبالغات المأساوية التي لا تحترم عقل القارئ ولا يصدّقها عاقل أو مجنون.
أحب جداً طريقة اعتراضك وسخريتك مما لا يصح أو استنكارك ما لا يررق لك ، ما أجمل أن تقرأ حين تكتب منى
إعجابLiked by 1 person
لم تعجبني حقًا، أولاً لعدم المنطقية الكامنة في الحاح الناشر عليه بالنشر! فأي ناشر لن يكلف خاطره بهذا الإلحاح إلا لو كان للكاتب اسم بالفعل في السوق وهناك قرّاء ينتظرون نزول عمله الجديد مهما يكن من شأنه، هذا وحده قد يكون سبب الإلحاح، فلو اصدر الكاتب تحت الالحاح عملاً ثانيًا فالطبيعي ان الناشر سينشره أيا ما كان كتبه، لأنه “كده كده” سيباع! ربما سينصرف عنه القراء إذا كان سيئًا حقًا – ولكن هذا الانصراف سيتجلى في عدم نشر الناشر له ثانية – وليس في هذا العمل، ففي عرف الناشرين اي ضجة يجب استغلالها في وقتها، وإن خفتت الضجة او الهالة حول احدهم فوداعًا له!
ثانيًا، صعب جدا ان يكتب ناشر لكاتب (المفترض به شهير ويلح عليه) هذه الجملة التي لا ترسل سوى للمبتدئين في مجال النشر، غير إذا سلمنا بهذا فأنها هنا لها مبرراتها حقًا حتى لو حاولت كلمة “بعد عمل مستمر رجهد جهيد” أن تقنعنا أنه بذل جهدًا لجعل اللسيخ شربات، طبيعي أن أحداث شريط الاخبار المتناقضة إذا جمّعت معًا فلن تصنع شيئًا له مقومات الرواية لأن الجانب الإنساني غائب، وكلمة تجنيع علاقات وربط مصائر مضحكة الصراحة
الخلاصة، انك اردت ان تكتب قصة رمزية، الرمز فيها واضح للغاية، مبروك! ولكنها ليست بقصة! إلا إذا جاملك القارئ ونظر مباشرة للرمز المقصود رغم هلهلة ثوب القصة المفصل على قدّه على ما فيه من مبالغات ولا منطقية . وقال لك أحسنت!
إعجابLiked by 1 person
أعتذر عن إهدار دقائق من وقتك.. وشكرا على تعليقك 🌷
إعجابإعجاب