في كل لحظة سعيدة أقول لنفسي: هذا شيء أدّخره للعمر القادم، لأتذكّره وأبتسم…
من هذه اللحظات السعيدة ذكرياتي مع حقائب السفر، إذ تُذكّرني بمشاوير أبي القديمة، تذكرني بعمله الذي كان يتطلّب السفر بعيدًا عنّا لفترات طويلة قياسًا بحساباتي آنذاك ولا أعرف على وجه التحديد كم كانت تطول فترات غيابه، فالقياسات في نظر الطفولة تكون أطول وأكبر وأبعد وأوسع دائمًا، وفي الوقت ذاته يكون اتّساعها في متناول اليد.
كان أبي يغريني بالاختباء في حقيبة سفره ليأخذني إلى عمله ويأنس بي. كنتُ أتصور المشهد؛ جسدي بين ثيابه البيضاء التي تطويها أمي بعناية، ورائحته تملأ الحيّز الصغير الذي أختبئ فيه حتى تحين له فرصة فيُخرجني من المخبأ/حقيبته، ونأنس ببعضنا.
كبرتُ وكبر أبي -ليت الآباء لا يكبرون- كبرتُ ولم أنسَ وربما نسيَ أبي… لكنني مازلتُ أحتفظ بهذه الذكرى وأخبئها في عتمة القلب، أُخرجها حين تتطاول الوحشة فتؤنسني كما كنتُ أتصوّر لحظة أُنسنا القديمة.
***
من هذه اللحظات أيضا لحظة مسروقة من مشوار رتيب اختار أبي خلالها أن يرتقي جبل السيدة، و وقفنا معًا على إطلالته من جهة مقبرة المعلاة، كنتُ أسير على نتوءات الحجارة بصعوبة بسبب كعب حذائي المرتفع. وقفنا معًا على الحافة، كانت أضواء مكة كلها تحتنا، كل بيت يومض من بعيد ويستهدف القلب، بيوت بحكاياتها، وشوارع بصخبها، أبراج بتعاليها، وسيارات باحتمالات وصولها.. كلها كانت تبدو وكأنها تتمدد تحت أقدامنا، أبي إلى جواري، وهواء بارد على غير عادة مكة في خلفية المشهد، ونشوة تتصاعد في روحي، وحميمية تعانقنا…
كلما ضاق عليّ الوقت تذكرت جبل السيدة و وقفتنا القصيرة واللحظة التي توغلت في الأبدية، لحظة تذكّرني بلحظة قديمة جدًا، أتذكّرها أحيانًا كأقدم ذكرى أحتفظ بها من طفولتي، تلك اللحظة التي وقفت فيها وسط الممر الضيق لبيتنا الأول، وكان الممر ينتهي بباب حديدي أزرق، أعلى الباب إلى السقف مساحة تغطيها زخارف حديدية كالشبابيك، تنفذ إلى الخارج…كنتُ أصغر من أن أتذكر عُمري وكان أبي أكبر من أن يكون في الدنيا شيء أكبر منه، حملني من تحت ذراعيّ ورفعني إلى الأعلى، إلى أعلى مايُمكن، إلى أن صرت مواجهة للزخارف الحديدية التي تعلو الباب، إلى أن رأيت الدنيا لأول مرة من فوق الباب، لا من خلاله أو من ورائه، تمامًا كما رأيت مدينتي من فوق، وكما أخذت النشوة قلبي في المرتين إلى فوق، إلى منطقة لا تطالها الأحزان ولا المرارة..