حزب السلاحف الأحرار

المشهد المُفضّل عندي من مسلسل الكرتون المدبلج (فلونة) كان مُختلفًا عن المشاهد التي لفتت انتباه أخواتي وصديقاتي؛ لطالما أحبوا منظر البيت المبني فوق الشجرة، ومشهد فلونة وهي لا تستطيع الجلوس بعد أن ضربتها أمها عقابًا لها، أو مشهدها وهي ثملة من (العصير) كما جاء في الدبلجة العربية، أو صراعات العائلة مع الذئاب والزلازل.. وغيرها من المشاهد.

مشهدي المفضل لا يتعلق بعائلة روبنسون كروزو أصلًا، بل يتعلق بسلحفاة (كومبارس) في هذا المسلسل، ربما لا يتذكرها أحد. تضع بيضها على الشاطئ وحين يفقس تخرج سلاحف صغيرة وكثيرة تمشي باتجاه البحر وحدها، بلا إرث أبوي، تشق طريقها نحو البحر والحياة دون أن تعرف من أين جاءت وكيف؟ لا أم ترعاها فيُثقلها الخوف من فقدها، لا إخوة وأخوات تتأثر بهم السلحفاة وتخشى من فقد آثارهم، لا أب تهابه وتهاب زوال هيبته حين يتقدم به العمر، لا عائلة تُحمّلها عُقدها وموروثاتها وقيودها وأحلامها المبتورة، لا أصدقاء ينهبهم العُمر مستغلًا زحام الحياة.. لا شيء، لا شيء إلا حياة بكر.. تتفتح في لحظتها.. وتمضي إلى الأمام بلا ماضٍ.

ذخيرة الأيام

في كل لحظة سعيدة أقول لنفسي: هذا شيء أدّخره للعمر القادم، لأتذكّره وأبتسم…

من هذه اللحظات السعيدة ذكرياتي مع حقائب السفر، إذ تُذكّرني بمشاوير أبي القديمة، تذكرني بعمله الذي كان يتطلّب السفر بعيدًا عنّا لفترات طويلة قياسًا بحساباتي آنذاك ولا أعرف على وجه التحديد كم كانت تطول فترات غيابه، فالقياسات في نظر الطفولة تكون أطول وأكبر وأبعد وأوسع دائمًا، وفي الوقت ذاته يكون اتّساعها في متناول اليد.

كان أبي يغريني بالاختباء في حقيبة سفره ليأخذني إلى عمله ويأنس بي. كنتُ أتصور المشهد؛ جسدي بين ثيابه البيضاء التي تطويها أمي بعناية، ورائحته تملأ الحيّز الصغير الذي أختبئ فيه حتى تحين له فرصة فيُخرجني من المخبأ/حقيبته، ونأنس ببعضنا.
كبرتُ وكبر أبي -ليت الآباء لا يكبرون- كبرتُ ولم أنسَ وربما نسيَ أبي… لكنني مازلتُ أحتفظ بهذه الذكرى وأخبئها في عتمة القلب، أُخرجها حين تتطاول الوحشة فتؤنسني كما كنتُ أتصوّر لحظة أُنسنا القديمة.

***

من هذه اللحظات أيضا لحظة مسروقة من مشوار رتيب اختار أبي خلالها أن يرتقي جبل السيدة، و وقفنا معًا على إطلالته من جهة مقبرة المعلاة، كنتُ أسير على نتوءات الحجارة بصعوبة بسبب كعب حذائي المرتفع. وقفنا معًا على الحافة، كانت أضواء مكة كلها تحتنا، كل بيت يومض من بعيد ويستهدف القلب، بيوت بحكاياتها، وشوارع بصخبها، أبراج بتعاليها، وسيارات باحتمالات وصولها.. كلها كانت تبدو وكأنها تتمدد تحت أقدامنا، أبي إلى جواري، وهواء بارد على غير عادة مكة في خلفية المشهد، ونشوة تتصاعد في روحي، وحميمية تعانقنا…

كلما ضاق عليّ الوقت تذكرت جبل السيدة و وقفتنا القصيرة واللحظة التي توغلت في الأبدية، لحظة تذكّرني بلحظة قديمة جدًا، أتذكّرها أحيانًا كأقدم ذكرى أحتفظ بها من طفولتي، تلك اللحظة التي وقفت فيها وسط الممر الضيق لبيتنا الأول، وكان الممر ينتهي بباب حديدي أزرق، أعلى الباب إلى السقف مساحة تغطيها زخارف حديدية كالشبابيك، تنفذ إلى الخارج…كنتُ أصغر من أن أتذكر عُمري وكان أبي أكبر من أن يكون في الدنيا شيء أكبر منه، حملني من تحت ذراعيّ ورفعني إلى الأعلى، إلى أعلى مايُمكن، إلى أن صرت مواجهة للزخارف الحديدية التي تعلو الباب، إلى أن رأيت الدنيا لأول مرة من فوق الباب، لا من خلاله أو من ورائه، تمامًا كما رأيت مدينتي من فوق، وكما أخذت النشوة قلبي في المرتين إلى فوق، إلى منطقة لا تطالها الأحزان ولا المرارة..

ألطف الكائنات

‏للصبايا فقط: هذه قائمة عن لحظاتنا الأجمل في أمكنتنا المغلقة والمعزولة. حيث نسكن البيوت كطيور قصقصوا أجنحتها لكنها لا تكفّ عن التحليق، وحيث نحلّق خارج البيوت أسرابًا تتبع بعضها:

❤❤❤

– ‏عن مشاهدة فيلم معا، فلا نعرف هل الفيلم جميل لأنه جميل فعلًا أم جميل لجمال (اللمّة) حوله؟ نتمدد على الأرض، رؤوس بعضنا على الوسائد، وأخرى منّا تتوسد فخذ صديقتها التي تخلل أصابعها في شعرها، نقاشات جانبية، إيقاف متكرر لانتظار المسكينة التي ناداها أخوها، شيبس، صوصات مبتكرة، وسعادة بسيطة قريبة.
– ‏عن الليالي التي تسبق أهم زفاف في العائلة، حين تبدأ قياسات الفساتين في حجرة واحدة. ووضع دبابيس على أماكن تتطلب التعديل، وتصدح الموسيقا ونقوم ببروفات رقص مصاحبة لبروفات الفساتين… نرتدي الكعب العالي على البجاما، نتدرب على الرقص بهذا الارتفاع… أحيانًا تكون لحظات الإعداد للمناسبة أجمل من المناسبة نفسها.
– ‏عن صديقتنا التي وقعت في الحبّ، فصار عندها حكايات لا تنتهي وتتجدد عن الشيء الجديد الذي تعيشه، ولا بد أن ننصت لهذه الحكايات مهما فقدت جدتها، وصار عندنا -نحن صديقاتها- موضوع واسم وتفاصيل نضحك عليها ونتهكم تارة، ونتعاطف لأجلها ونسخط لعذاباتها تارة… ونقدّم لها تقاريرا عن تلفيات قلوبنا لنجبر قلبها حين ينكسر، وكأننا نهمس له: (لست وحدك)
– ‏عن اجتماعات المطبخ؛ الالتفاف حول طاولة طعام قد لا تكفينا كراسيها، فتجلس إحدانا على رخام دولاب المطبخ، وأخرى تقف أمام المجلى، ينهمر الماء على الصحون التي تغسلها، وينهمر الكلام بيننا، فتغسل الحكايات أرواحنا، تزيل سخام التعب. ❤
– ‏عن اكتشاف كوفي جديد نطير إليه زرافات ووحدانا… وتتخلف إحدانا لأي سبب، ربما ارتباط عائلي، ربما أزمة مواصلات، ربما منع من الأُسرة… لكننا لا نتخلف عن حضور غيابها. فنلتقط صورًا لفناجيننا مع أيدينا المزينة بالمناكير والأساور… ونبعثها إليها لنقول: لن ننسَى نصيبك من اللمّة الحلوة❤
– ‏عن الوجوه والرؤوس المختبئة تحت الغلالة السوداء التي حفظت عنّكن الأغاني المختارة لقطع المشاوير، حيث تُخبئن السماعات تحت هذا السواد بالاحتراف ذاته الذي تخبئن به حكاياتكن/ شغفكن/ أوجاعكن/ أجسادكن/…
– ‏عن جلوسكن في صالات انتظار الجامعات لانتظار الباصات والسائقين، تجلسن بملل على الكراسي التي لن تملّ حضوركن، ولم تملّ فيض الحكايات العابرة التي تتبادلنها… تجلسن صامتات أحيانا، لكن قد تتخذ إحداكن موقفا من جمال الأخرى، فتسألها: (كحلك من وين؟ معليش ممكن أعرف ماركة ماسكرتك؟ كم درجة الروج؟)❤
– ‏عن الكثافة السكّانية في السيارات، حين تأتي فرصة تقول: “بتروح لك مشوار؟” ولا نقول: “يا ريت” بل نصعد مباشرة لسيارة يقول صاحبها: ما تكفيكم… فنرتصّ في دورين رغم أنف المقاول/السائق… وتكفينا، تكفينا كل سيارة طالما الوقت الحلو ينادينا…
– عن صوت استشورات السهارى لي مروا علي عصرية العيد، وليلة العيد، وصباح العيد… صوت الاستشورات حين يصبح ساوند تراك لمشاهد المناسبات السعيدة. يتجاوب في أرجاء البيت، وفي زحام الصالونات… هواء حار يساعد على توقّد الفرح، وإنضاج الجَمال…
– عن النوم في بيت الخالة أو بيت العمّة أو بيت الجدّة، النوم مع (لمّة) بنات العائلة، في غرفة تتمدد عليها مراتب النوم أرضا وعلى الأسرّة، طولًا وعرضًا… هذه النومة التي يسبقها ضحك ضحك ضحك لا يوصف ولا يُقاس.