حنين المفارق

هذا الصباح برعاية أيوب طارش، كانت النيّة أن أسمع “عِشْ حياتك لا تضيّع لحظة وحدة بالوجود، ليش تزعّل بس روحك؟ ليش تفكّر في البعيد؟” وكنتُ أتجنّب أن أتعثر في قوائم التشغيل بأغنية (لمن كل هذه القناديل تضوّي لمن؟ لأجل اليمن) فكل القناديل التي غنّى لها أيوب بفرح واحتفاء صارت تضوّي الطريق لموتٍ يتخبّط في عتمته، ومن يتخبط في العتمة سيهوي على كل شيء، وإن أضاءت العتمة سيصير الاقتناص أسهل. وفي الحالتين لا كاسب إلا الموت… وكلما سمعتُ هذه الأغنية أو تذكرتها أخال أني أسمع الضوء ينتحب في خلفية المشهد.
غير أنّي تذكرتُ أغنية غنّاها أيوب للمغتربين خارج اليمن، نسيت اسم الأغنية وأتذكر أني سمعتها في يوتيوب على مشاهد من خضرة اليمن الذي كان ينبغي له أن يكون سعيدًا، وما كان… سمعتُ الأغنية في ٢٠١١ العام الذي مسّنا فيه الأمل، وتأثرت يومها، غير أني حلمتُ أن يأخذنا الربيع إلى الازدهار لا الدمار، فكان تأثري مسنودًا بالأمل، فلم أخش الاستماع إلى الأغنية لذكراها الغضّة في قلبي، وبدأت أفتّش عنها. في طريق البحث سمعتُ أيوب يغني للمغتربين أكثر من أغنية، في البداية ظننتُ أغنيتي المنشودة هي (حنين المفارق) ومع بدايات فجر اليوم الذي يعود فيه آلاف الموظفين في بلادي إلى أعمالهم داخل بلادهم، كان أيوب يغني لمن يعملون بعيدًا عن البلاد:
“سحابة الفجر سيري، مع حنين المفارق..
رشّي فؤاد المتيّم.. ندى سخيّ العطر عابق
من مخمل الغيم غطّي.. لواعجي بالبيارق.
بلّي بهطلك قليب.. صبابته كالحرائق
وجنِّحي عالذي.. شوقي إليه سيل دافق.
وبلغيه بالمراد.. إني بعهده لواثق”
فكّرتُ في المغتربين بيننا، الذين سيعودون إلى أعمالهم هذا الفجر بلا سحابة فجر تظلل قلوبهم العارية في مواجهة الاشتياق والحنين، يعودون، من استراحة قصيرة، ليلة أو نصف يوم، لا من إجازة طويلة، يعودون ويعود إلى قلوبهم في كل حين (حنين المفارق).
وفي طريق بحثي، عثرتُ على أغنية أخرى، في فيديو الأغنية صورا لبيوت صنعاء الشامخة، وجبال اليمن المفروشة بالاخضرار، وغضاضة الأرض التي تبدو كطفلة أصغر بكثير من أن تصييها كل هذه الجراح، وأيوب يغنّي على لسان مغترب طار إلى بلاد بعيدة:
“جَنَّحت واجناحي حديد لا ريش
فارقت أرضي حيث أحب واعيش
لا أين، لا أي البلاد، ما أدريش”
كنتُ أسمع الأغنية وأفكّر في السائرين تلك اللحظة بلا أجنحة على أرض أحلام مجدبة وتحت سقف توقعات منخفض نحو أعمالهم البسيطة، نحو دكاكين لا يملكونها، ووظائف بلا أمان وظيفي، وبسطات في هجير الشمس والاغتراب، وبناشر يقضون في لهيب حرارتها وبين سواد زيوتها وضجر مساحاتها أكثر مما يقضون في خضرة بلادهم البعيدة، وأيوب على لسان هذا المغترب يغنّي:
“لا شيء في روحي سوى اشتياقي
للنهر، للرعيان، للسواقي
ولهفتي لفرحة التلاقي
لمن فؤادي في هواه باقي”
ومن أغنية إلى أغنية، عثرتُ أخيرًا على الأغنية المنشودة، أو تعثّرت بها، الأغنية التي سمعتها لأول مرة في ٢٠١١ العام الذي مسّنا فيه الأمل، وتأثرت يومها، غير أني حلمتُ أن يأخذنا الربيع إلى الازدهار لا الدمار، فكان تأثري مسنودًا بالأمل، فلم أخش الاستماع إلى الأغنية لذكراها الغضّة في قلبي… سمعتها، وأدركت أن الأمل قد يكون أكثر إيذاءً من اليأس، لم أتمالك دموعي، حتى أنّ ذهني حرّف الكلمات في لحظة من “اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحضان” إلى “اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحزان”
“وامفارق بلاد النور وعد اللقاء حان
الوفاء للوطن يدعوك لبّي النداء الآن
لا تغيبوا كفى غربة ولوعة وأحزان
اليمن تنتظركم ياحبايب بالأحضان
يا أحبة رياض الأنس صحرا وقفرة
الحزن بعدكم أطفأ شموع المسرّة
والندى في الحقول يبكي على كل زهرة
والأماني تناديكم بأعشاش الأشجان
ياغريب الوطن يكفيك غربة وأسفار
الوفاء دين يالله شرّفوا الأهل والدار
لُمْ أحبابنا ياشوق من كل مهجر
دق ناقوس جمع الشمل في كل محضر
لأجل حزن الشجي المهجور يسلى ويستر
والأماني بأوتار القلوب تعزف الدان”

فيا ربّ ‏أعدْ البلاد (السعيدة) سعيدة، وانثر على خضرة أرضها وشموخ جبالها وطمأنينة وهادها الخير والسلام. افتح لدعوات أهلها المتعبين سماوات رحمتك بلا طائرات تنتهكها، أو قذائف تضيّق المدى بدخانها… ومتّع أطفالها بهواء أكثف من الرصاص، وساحات لعب أوسع من المقابر.
وارحم المغتربين بعيدا عن (بلاد النور) الكادحين بلا (وعد لقا حان) وبلا قناديل تضوّي في لياليهم… ارحمهم من لوعة الاغتراب، وقسوة (حنين المفارق) ومن شحّ الألم، ومن بأس اليأس. واعدهم إلى بلاد تنتظرهم بالأحضان، لا بالأحزان.
……..
Listen to وا مفارق بلاد النور – ايوب طارش by Hani Abdulkarim 4 on #SoundCloud