بخير، أنا دائمًا بخير.
ما دمتُ أملك صلاحية استعارة ضحكتي القديمة في أحلك أيامي، ربما لم تعد ملائمة لوجهي الذي جفّفه اليأس وجرّحته ملوحة الدمع، لكن أستعيرها، أستعيرها من خزائن العمر، لأجرّبها كما تجرب النساء فساتينهن القديمة عند ترتيب خزائن الثياب وترميم الذاكرة.
بخير، أنا دائمًا بخير.
ما دمت أذكّر عتمة روحي باللون الأخضر، أذكّر روحي أنها لم تنشأ في العتمة ولم تكبر في العمى، أذكّرها أنّ لها ذاكرة مع الألوان. علّ هذه الذاكرة النديّة تُرطّب ما اعتراها من يباس.
بخير، في أشدّ أيام بؤسي أنا دائمًا بخير.
بوسعي ترميم قلبي، أعلّق على جدرانه ذكرياتي الجميلة، فأدرك أنني عشتُ شيئًا غير هذا التشظي، ومهما تألّم قلبي الذي أعيته الكسور، لن تضيع عنه حقيقته، ولا ذاكرته مع التوثّب والقفز فرحًا، والركض شغفًا، والطيران سعادة.
بخير، أنا دائمًا بخير.
إذ ما زلتُ قادرة على شكر اليد التي أفلتت يدي، فبدونها أجد مخرجي من الضياع.
ما زلتُ قادرة على شكر الوقت الذي صفع باب اليأس في وجهي، فمن حينها اكتشفتُ اتّساع النافذة.
ما زلتُ قادرة على شكر الغرباء الباسمين، الغرباء الذين لا أعرفهم ولا يعرفون مدى طمأنينتي حين تشرق ابتساماتهم على عتمتي، فيساعدونني على الوصول إلى مخرج الطوارئ حين يخذلني الأحبّة.
ما زلتُ قادرة على شكر الأحلام المؤجلة، وعلى ركنها البعيد ألمح عمرًا بانتظاري. وما زلتُ قادرة على شكر الأحلام المنطفئة فقد وفّرت عليّ فواتير الانتظار.
ما زلتُ قادرة على شكر الأيام المجدبة، إذ درّبتني على النظر إلى السماء وانتظار الغمام. فعوّدتني على رفع رأسي دائمًا.
ما زلتُ قادرة على شكر خساراتي المبكرة، إذ باكرتْ بالمخالصة وإخلاء طرف الأمل، فالأمل موظّف عنيد لا يصمت ولا يعمل.
بخير لأنني ما زلتُ متصالحة مع الخسائر المتأخرة، إذ مكنتني من تحصيل استحقاقات مكافأة نهاية الخدمة من الذكريات والدروس والتجارب والندوب.
بخير، أنا دائمًا بخير.
ولا زلتُ أشكر قدرتي على شكر كل شيء.
بخير، أنا دائمًا بخير. وفي قلبي أجد الشقّ الذي يدخل منه النور، فأجرؤ على خدش وجه الحُزن المتجهم.
بخير، لأنّ قلبي يُحصي الأحبة، فتتضخم مكاسبي، وتتلاشى خساراتي.
بخير، لأن لي قلب يستثمر في المناطق المحايدة، فينمّي رصيدي من الرضا والقناعة.
بخير، أنا دائما بخير.
فما زال عندي خنادق أتمترس خلفها، ومخارج طوارئ كثيرة. ما زال في القلب أصدقاء يكنسون العتمة ويفتحون النوافذ للهواء والشمس والحريّة. ما زال في المحيط أحبّة لا يرون منّي إلا أجمل ما فيّ، فأحتال بضياء رؤاهم على عتمة رؤاي.
ما زال لقلبي أولياء صالحون أتوسّل بواسطتهم للحياة أن تدوم ما داموا معي، كي أغلب بكثرتهم وكثرتي بهم شجاعة الوقت وجرأته على ارتكاب الفظاعات.
ما زال عندي عمل ينتزعني من فراشي كل صباح، ويهمس في أذني: ليس بوسعك إنقاذ هذا العالم المنكوب، لذا ابحثي عن خلاصك، جاهدي كي لا تتحولي إلى صورة عن ما تكرهين، تحسّسي قلبك كل يوم كي تتأكّدي أنّه لم يتحجّر، فيصيرُ جدارًا يصدّ النور والناس، وأن لسانك لم يزدد حدّة، فيصير نصلًا. وأن عينيك لم تتآلف مع عتمة العالم فتعمى عن الحزانى والمتعبين والمظلومين، تأكّدي أن أذنيك لم يعطلهما الضجيج وما زال بوسعمها تمييز الأنين…
وما زلتُ أتساءل: كيف أتأكّد من صدق حاستي التي أتحسّس بها نفسي؟ فالسيئون والطغاة لا يدركون ما هم عليه، وقد أكون منهم… لكن على أي حال سأتذكّر يوميا أنّ هذه حربي الأبديّة مع نفسي، ومع تحوّلات الوقت، وأرجو أن لا أنطفئ تحت رمادها. كي أظلّ دائمًا بخير.
بخير، أشعر أني بخير حين أتذكّر أنّ هناك أغانٍ عبرت أذني في لحظات ماضية ومازال مكتوب لنا أن نتعثر ببعضنا مرةً أخرى، نبتسم لصدفة اللقاء، ثم نتعانق بشكل أبدي…
وهناك قصائد لم أقرأها بعد، لم أتجذّر في أرضها فتورق روحي بالمعنى وتتسع لي الظِلال.
هناك أطفال لم أعرفهم بعد، لم أقاسمهم الحلوى ويقسمون لي من رغيف دهشاتهم ما يسدُّ جوعي للبسمة والفرح والحياة.
هناك صبايا ضعف اللاتي عرفتهن وشاهدتهن، وبعددهنّ مازال ثمة متسعٌ للتيه المنتشي في تفاصيل أحمر شفاههن وقصّات ثيابهن وطريقتهن في اختيار طلاء الأظافر…
هناك مدنٌ لم أدخلها بعد، لم أعلّق عيني على واجهات محلاتها التجارية، لم ترقص روحي على وقع ضجيجها، لم أتفيأ ظلال شرفاتها، لم تخدشني زوايا حاراتها الضيقة…
بخير، أشعر أني بخير حين أتذكر أنّ عندي مرفأ للأشياء الجميلة التي عبرت ومازال بوسعها أن تتكرر، عندي متسعٌ لما لم يحدث بعد لكن لم يفتْ أوان حدوثه… بخير، لأنّي أتذكر كل هذا، فأتذكّر شعوري بالحياة.
فالضحكة، الطفولة، العناق، التلويح، القفزة، باقة الورد، الابتسامة، شهقة الفرح… إلخ. كلها أشياء جميلة وعمرها قصير، لحظية. لكنها ليست عابرة، تعود دائمًا، تعود أبدًا…
بخير، نحن دائما بخير.
بخير ما دمنا لا نعدم أبدًا من أولئك الطيبين الذين ينقّون الشوك من طرقاتنا وأقدامنا وثيابنا، ويمهّدون لنا طريقًا نحو الأمام خاليًا من نتوءات الماضي آمنًا من جفاء الرفقة.
بخير، ما دمنا لا نعدم الصحاب الذين اعتادوا ظلام أحزاننا وتآلفت أعينهم معه حتى صاروا يبصرون فيه، ويدلوننا على المنافذ.
بخير، نحن دائمًا بخير. لأننا لا نعدم أبدًا من القادرين على تذكير الحياة بأنّها حياة، وليست مجرد احتضار يطول.