مواساة

‏لا بأس أيها الوقت الملوّن بلون الرماد، أعرف أن نيرانك انطفأت و وهجك تلاشى… لكن امتدادك ألهمنا كيف ننبعث في كل يوم من الرماد، كيف نتعايش مع الرماد بعد أن كنا وهجا وطموحًا… وعلى أي حال سيصير هذا الرماد ترابًا، فلا بأس.

‏لا بأس، سنجتاز هذا السراب الذي يحرّض العطش، ويخاتل الأماني، وسنجد خلفه سرابًا آخر يقطع لنا وعود الارتواء، فنرتوي بالانتظارات المالحة، لكننا نرتوي على أي حال.

‏لا بأس يا رفاقنا المغيبين، نحن أيضا مثلكم، غابت أصواتنا وشُلّت أيادينا وتفاقمت حسراتنا، وكل هذا الوجع يقاتل النسيان ببأس شديد، فلم ولن ننساكم، فلا تنسوا هذا في عتمة زنازينكم. لا تنسوا كي لا تصدأ أرواحكم وتتآكل في صدأ الانتظار المفتوح على وفرة الاحتمالات حينا، وعلى شحّها أحيان.

‏لا بأس يا أحبتنا الذين فقدناهم في عتمة الغياب الأبديّ، يومًا ما سنلحق بكم حيث أنتم، فنخبركم كم كان أليمًا فراقكم، وفي تلك الأقبية الموحشة سنظلّ ننتظر القادمين ليخبرونا كم كان أليمًا فراقنا.

لا بأس أيها الحزانى الذين يدهسهم شعور الخذلان، ويزعجهم صخب الصمت، ما زال في اللغة كلمات للعزاء والمواساة، وإن كانت عاجزة عن العمل، وإن كانت موقوفة عن الأمل، وإن كانت محبوسة على ذمة التحقيق في جدواها، وإن كانت محكومة بالإعدام مع وقف التنفيذ. لكنّها موجودة على أي حال.

لا بأس يا أنا، حدّة الشعور في هذا الزمن عبء لا يُطاق، يسحلنا كلّ يوم على نتوءات الفظائع، يفتّت قلوبنا بصخر الظلم، يجرّعنا مرارات الصدمة مع كل صدمة لا تسقط مرارتها بفعل التقادم أو الاعتياد.
لكنّ حدّة الشعور ضرورة، ضرورة كي لا يحوّلنا الواقع إلى مسخ غير واقعي، يتعايش مع فواجع واقع لا يقبله أي واقع. هه

‏أشعر أنّ لهيب جمر يتوقد تحت أصابعي، يتآكل منه اللحم ببطء نسبي ويتفاقم الألم بتسارع فظيع، فظيع… في هذه المرحلة الظالمة
لكن لا بأس، فما زلتُ أشعر بماء بارد ينضح في وجهي يعقبه تيار هواء لطيف وأنا عائدة من نهار جحيمي، كلما تذكّرت أنّي لم أفقد نفسي رغم كل شيء، لم أفقد إحساس قلبي، لم أتغيّر، ولن أتغيّر.

فألهمني يا ربّ سذاجة الأطفال الذين ينتظرون انتصار الخير في نهاية كل قصّة، ألهمني يا الله تهوّر الحالمين ومجازفات أحلامهم في وسط هذا القُبح، ألهمني يا ربّ إيمان العجائز، وتصديق الدراويش، ونزق الثوّار. ألهمني يا ربّ أنّ أظلّ كما كنت، وأن أكون كما ظننت، وأفضل وأصدق وأبسط وأسذج مما ظننت. ألهمني يا ربّ ألهمني لذّة انتظار الإلهام.

عيد الدِّني


صباح البسمات الطويلة.
أعتقد أنّ نقطة الالتقاء بين الصباحات وبين صوت فيروز هي استقطاب البداية، صوت فيروز صوت ملاك يُذكّر الإنسان دائمًا بنشأة أبيه في الجنة.
أمّا نقطة الالتقاء بين الصباحات وقلبي؛ الولع بالبدايات. أوّل كل شيء هو مُنتهى الجمال فيه.
ضمن مايستحق الحياة على هذه الأرض، يذكر درويش: “أول الحُب”
‏وفي قصيدة أخرى يقول: “لا أريدُ من الحبِ غير البداية”
لكنِّ البداية الأبدية لا وجود لها، لأن البداية حين تتمدد بلا توابع ونهايات وحواشي كثيفة، لن تصح تسميتها بالبداية.
ربما لذة البداية كامنة في الزوال، وكل زائل جميل، كل ما لا يُمكن القبض عليه ثمين.

في الصباحات تتفتح روحي، يستيقظ أجدادي الرُعاة النائمون في دمي، وتربط الفلاحات مناديلهن الصفراء على شعورهن ويخرجن نحو البلاد… الطين الذي خُلِقتُ منه يُنِْبت سنابل شامخة لا تُنكّس رؤوسها إلا حين يُثقلها الحنين، حنيني إلى البلاد البعيدة، إلى البيت القديم الصغير الذي اتسع على امتداد عُمري وصار موئل ذاكرتي… حنيني إلى البنت التي كانت تُطارد الأغاني في المحطات، تفتتح الصباحات دائمًا بصوت طلال حين يُطلّ عبر برنامج (نسيم الصباح) في إذاعة الرياض: “صبّح صباح الخير من غير ما يتكلم”
للصباح رائحة خبز الأمهات، رائحة أيديهن المخضبة بالحناء، رائحة الأرض التي سقاها المطر، رائحة الطين إذ تشكّل أول مرة، قبل أن يتشكل منه البشر الذين ورثوا عنه الحنين الأبدي للأرض… للمنشأ، للأصل، للجذور، للماء، للشمس، للهواء، للأعشاش، للثمر…

صباح البسمات الطويلة.
صباح الخير لعُشّاق البدايات، صباح البدايات الزائلة، التي تعود بعد زوالها، تعود إلينا من جديد، تعود كل يوم، كل يوم، كل يوم، كل يوم…

“ليسَ سرًّا يا رفيقي أنّ أيامي قليلة
ليس سرًّا إنما الأيام بسمات طويلة
إنْ أردتَ السرّ فاسأل عنه أزهار الخميلة
عمرها يومٌ، وتحيا اليوم حتى مُنتهاه
سوف أحيا
سوف أحيا”

لا عاصم اليوم، لا معصوم

يُعذّبني تأنيب الضمير، يُعذّبني. يسحلني في ليالٍ كثيرة، يُذكّرني بعتمة روحي التي أطفأت في أرواح الآخرين البهجة أو الصدق أو الثقة أو اليقين أو وهج اللحظة، أو انتزعت من اللحظة الرتيبة العادية عاديّتها وجعلتها لحظة قاتمة وخانقة.

تعذّبني الذاكرة، وترعبني فكرة أنّ بعض تصرفاتي التي أتذكرها أو لا أتذكرها قد صارت ندوبًا في ذاكرة أي شخص عرفته.

تعذّبني قلّة حيلتي أمام فظاعات العالم ومآسيه، وأتعذّب أكثر حين أتصور أن يدي العاجزة عن إصلاح العالم قد تكون فاعلة في تخريبه أو في مفاقمة أوجاع من يتعذبون يوميًا فيه. فما أنا إلا وريثة آدم وسلالته، على ظهري إرث هائل من الخطايا البشريّة والنقص الوراثي.

يعذّبني الانتصار والتعادل والخسران، إن انتصرتُ لنفسي بردّ الأذى مضاعفًا لمن آذاني، أو إن سعيت إلى إنصاف نفسي ممن يؤذيني بإتخاذ إجراء يحقق العدالة والتعادل، أو إن خسرتُ نفسي واستسلمت للأذى، في كل هذه الأحوال أتعذّب، أتعذّب من فكرة أننا في هذه الحياة المتسعة لنا جميعًا، لا نملك إلا خيارات ضيقة في تعايشنا معا، إما أن نؤذي الآخرين، أو يؤذوننا.

زهير بن أبي سلمى بعد أن سئم تكاليف الحياة، واختبر الناس، وعركته الخطوب، وأنضجته الأيام، وسار به العمر إلى مكان شاهق وقصيّ فصار من مكانه هذا يرى الحياة برؤية أوسع، وينظر إلى المشهد كاملًا، يقول: “ومن لا يتقي الشتم يُشتمِ” و “من لا يظلم الناس يُظْلمِ”
أيعقل يا زهير؟ أيعقل أنك من على جبل الشيخوخة الشاهق ما رأيت في حياتنا مناطق آمنة وحيادية لا تطحنها رحى الصراعات؟

نشر غسيل

تحت بيتنا القروي المستقر على جبل متوسط الارتفاع، بيت شعبي يحتلّ الحوش نصف مساحته ويمتدّ فيه حبل غسيل، بيت صغير مأهول بأمّ متفانية، ومكتظّ بأولاد لا أعرف عددهم على وجه التحديد لكنّه عدد يسمح لهم بتشكيل فريق كرة قدم يقيم مبارياته يوميًا بعد صلاة العشاء في هذا الحوش المفتوح.
حين أرى جارتنا تعلّق الملابس البيضاء في العصاري على حبل الغسيل، أعرف أن أولادها اليوم سيلعبون كرة القدم بملابس رياضية ملوّنة. وفي العصاري التي يتلوّن فيها الحبل بتشكيلة ملابسهم الرياضية، أراهم يلعبون في الليل ببياض الثياب الداخلية التي يرتديها الرجال عادةً تحت الثياب.
نعم، لم يكن لكل فرد من أفراد فريق كرة القدم هذا إلا لباسين، يبدل بينهما وأعرف أنا هذا التبديل من قبل بدء المباراة، يخبرني عنه حبل الغسيل.

حبل الغسيل في بيت هذه الجارة الفقيرة هو أول حبل وصل بيني وبين الحكايات المعلّقة على حبال الغسيل.
‏من حينها وأنا واقعة في حبّ هذه الحبال، أتأمل الملابس المتروكة في وجه الريح والشمس، وتستيقظ في قلبي الحميمية والمحبة، فأتمنّى أن أتلمّس البرودة الرطبة في النسيج ليتندّى قلبي، أتمنى أن أصافح أيدي النساء التي جفّفها الصابون وهي تُطارد البقع وتجاهد لخلق البياض من جديد، أشمّ بروحي رائحة الألفة والعائلة والأعمار الموزعة على حبل الغسيل.💜
‏في المدن الخرساء، حيث البنايات المتعالية على ضآلتنا، وبين التماع واجهات الزجاج الذي يعكس كل شيء إلا الألفة. في هذه المدن لا أشعر بالألفة إلا إذا انعطفت إلى أحياء خلفية، وشوارع ضيّقة، وعمارات قديمة بنوافذ كثيرة وتقاطعات وتفريعات من حبال الغسيل، هنا تتوارى وحشة الصمت في المدن الخرساء، فأسمع وشوشة الحكايا التي لا يُمكن غسلها عن الثياب.

أحبّ أيضا حبال الغسيل التي ظهرت في أفلام السينما العربية، تشارك البطولة مع وجوه الممثلات الجميلات اللاتي يجعلن من (طشت الغسيل) ذريعة إغراء، يحملنه ويصعدن السلالم بمشية تتغنج كي يلمحهن ابن الجيران، مفتونة بالحبال وبحكايات الحُب المعلّقة عليها في سينما الأبيض والأسود، كالحكاية التي تمدّدت على كفي زبيدة ثروت حين كانت تتطلع بعينيها لابن الجيران الوسيم المشغول ب(مزاكرتو) على السطوح، فصعدت تنشر الغسيل على حبل الغسيل المعلّق كذريعة واحتمال، ثم قطعت الحبل وطلبت منه أن يساعدها على ربطه لتقطع ذريعة الصمت بينها وبينه، وتنشر غسيل رغبتها البريئة في بدء كلام، ونيل اهتمام… رغبة نديّة ونظيفة، كالملابس النديّة النظيفة ساعة خروجها من طشت الغسيل.

للحبال وظائف أخرى غير العمل في المشانق، أو الالتفاف حول البضائع النائية عن أيدي الناس، أو الربط والتقييد. فحبال الغسيل دار نشر شعبية لقصص الناس وأخبارهم وأحوالهم💜

مجلس عزاء الإنسانية

اللغة مَلَكة الإنسان التي ينفرد بها عن الكائنات، والأدب أسمى تجليات هذه المَلَكة؛ فهذا الإرث الإنساني الأعظم لا يبرمج حاسوبًا أو يخترع جهازًا ذكيًّا أو يصنع شيئًا ماديًّا، فقدراته أمضى من الآنيّة، قدراته تمكنّه من الخلود. نستودعه ماضينا ونربّت به على أكتاف الحاضر المُتْعب.
الأدب لا يُرمّم الماضي، ولا يهذّب الحاضر، ولا يرتّب مكانًا مريحًا للمستقبل… لا يقتل الطغاة، ولا يمنح الفقراء خُبزًا، أو ينتزع السلاح رغمًا، ولا يدلّ مجلس الأمن على مخبأ الأمن المذعور من فظائع العالم.
لكنّ كل هذه (اللاءات) لا تنال من فاعليته، فهو طريقة الإنسان الأزليّة لقول (لا) لكل القبح الإنساني. الأدب مثل يدٍ حانية ومجرِّبة، يد خالدة لمست كل المآسي الإنسانية، اختبرت كل الفظائع، ولطالما تشنّجت غضبا من قلّة حيلتها، وأصابها الشلل مرّات ومرّات، اكتوت بنيران هائلة، ودخلت إلى جحور التجارب وعانت من كل اللدغات. ثمّ جاءت بعد هذا كلّه لتربّت على كتفك بكل حنو… ❤
يوثّق التاريخ المظالم ووحشية الإنسان مع أخيه الإنسان، بينما يوثّق الأدب انعكاسات هذه المظالم في نفوس الناس، يوثّق شعورهم حيالها، ومكابداتهم معها. ولنا في أدب السجون عبرة، ولنا مع أدب الحروب ألف قصّة وقصّة.
باختصار، الأدب أقوى حراك معارضة ضدّ سيادة الطغيان وأقوى مجاهد يحاول أن يهزم الموت.
فالتاريخ متحدث رسمي باسم السلطة، والأدب هتاف الشعوب.وقد كتب هوراس في القرن الأول قبل الميلاد: “كم مِن رجلٍ شجاع عاش قبل عهد أغاممنون، ولكنّ الليلَ الطويل غطاّهم جميعاً، مجهولين لم يشيّعْهم أحد، لأنهم كانوا يفتقدون شاعرًا”
يعلّق مانغويل على مقولة هواس بقوله: نحن أوفرُ حظّاً، إذ أخذنا بما تضمره كلماتُ هوراس. القصائد والقصص التي ستحرّرنا (أو التي سنعثر فيها على نوعٍ من الخلاص) تُكْتَبُ الآن، أو سوف تُكتَب، أو قد كُتِبت وهي في انتظار قُرّائها، لتتولّى عبر امتداد الزمن، المرة تلو الأخرى، القول إن عقلَ الإنسان أوسعُ حكمة على الدوام من أفظع أفعاله، لأنه يستطيع تسميتها؛ وإن ثمة شيئاً في الكتابة الجيدة التي تصف أفظع أفعالنا يكشفُ عن شناعة تلك الأفعال فلا تبدو منيعةً عصية على الاختراق؛ وإن الكاتب الملهَم، رغم هشاشة اللغة واعتباطيتها، يستطيع أن يروي ما هو عصيٌّ على القول ويمنحَ شكلاً لما هو عصيٌّ على التفكير، بحيث يخسر الشرّ بعضاً من سطوته الغامضة ويقف مختزَلاً إلى بضع كلمات لا تُنسى.”
ويقول رسول حمزاتوف في كتابه (بلدي): “تاريخ العالم، كمصير أي إنسان، يجب أن نقسمه إلى قسمين: قبل ظهور الكتاب، وبعد ظهور الكتاب. الفترة الأولى ليل، الفترة الثانية نهار ساطع. الفترة الأولى وادٍ ضيق مظلم، والثانية سهل واسع أو قمة جبل”
‏يقول بورخيس عن هذا الإرث الإنساني العظيم: “إن الكتاب هو الأكثر دهشة بين كل الأدوات التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، إذ إن بقية الأدوات هي امتداد للجسد، فالميكروسكوب والتلسكوب امتداد لرؤية الإنسان، والهاتف امتداد لسمعه، المحراث والسيف امتداد لذراعه، غير أن الكتاب امتداد لشيء آخر، امتداد للذاكرة والمخيلة”
ف‏الأدب أقدم وأوسع مجموعة دعم للمنكوبين في قٌبح هذا العالم. في كتاب (مهنة العيش) كتب بافيزي: “القصائد هي الثأر من حسيّة محضة” وكتب أيضا: “‏ذلك الشِعر الذي نتج عن الحرمان، كان مؤيّدًا بواقع أنّ الشعر الإغريقي الذي يدور حول الأبطال نشأ حين كان أسلافهم مطرودين من أوطانهم حيث يرقد أولئك الأبطال”
وفي مقال بعنوان (لا بدّ من الشعر) يقول ممدوح عدوان: “الشعر هو ذلك الشيء الإيجابي العظيم، هو ما يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعوّد الذلّ بعد ولم نقبله، وأنّنا ننزف لأننا لم نمت، وأننا نغضب لأننا لم نتأقلم مع الظلم”
الأدب فعل مقاومة، وحرب استنزاف مع كل ما يستنزف إنسانيتنا. إنّه الفأس التي تكسر البحر المتجمّد فينا على رأي كافكا.
يورد ما نغويل في كتابه (مدينة الكلمات) جملة لدوبلن تقول: “اللغة صيغة من حبّ الآخرين”
وتتحدث إيزابيل الليندي في الكتاب الذي أرّخت فيه فجيعتها بفقد ابنتها باولا عن الكتابة التي أنقذتها من حزنها، وعن رواياتها المليئة بالأطفال اليتامى الذين تختلقهم كي تواسي الطفلة التي كانتها في فقد أبيها الذي خذلها، إذ خرج ذات يوم ليشتري السجائر ثم لم يعد قط. فأحاطت يُتمها بيتامى رواياتها لتلعب معهم فتنسى أسئلة الفقد وحسرة الغياب… كما تصرّح أن رواياتها تدور غالبًا حول نساء مستقلات قويّات، كافحن ليتغلبن على الصعاب. كي تقول لكل امرأة تكابد على هذه الحياة: لستِ وحدك، أنتِ جزء من كفاح جماعي…
الروائية إليف شفق عاشت وحيدة أيضا، محرومة من حضور الأب الذي اجتث جذوره من حياتها وتركها بلا ظل، فصارت مدينة للكتب التي أنقذتها في طفولتها من شعور الوحدة.

في قصة لغاليانو بعنوان (وظيفة الفن) يقف طفل وشاب أمام البحر، أحدهما يرى البحر لأول مرّة، فيقول لصاحبه: ساعدني كي أرى. وهذه الجملة هي وظيفة الفن التي يشير إليها العنوان، فالفنّ اتّساع في الرؤية، رغم ضيق الوقت.
عن الفن أيضا -والأدب جزء من النتاج الفني- كتبت أوليفيا لاينغ في كتاب (المدينة الوحيدة) الذي تقصت فيه معاناة الوحيدين في مدينة نيويورك المكتظّة بكل شيء ما عدا الألفة، وتتبعت النتاج الفنّي الذي كان وليد الوحدة الشاسعة لمبدعيه، تقول: “هنالك العديد من الأشياء التي لا يمكن للفن فعلها. لا يُمكن للفن إحياء الموتى، لا يمكن للفن حل المشاكل بين الأصدقاء، أو علاج الإيدز، أو حل مشكلة الاحتباس الحراري، ورغم هذا فإن للفن بعض الوظائف الخارقة للعادة، قدرة غريبة للتفاوض بين البشر، خاصة بين أولئك الذين لم يسبق لهم الالتقاء من قبل والذين بإمكانهم أن يُثروا ويُكمِلوا حياة بعضهم البعض. وله أيضا قُدرة على خلق الأُلفة، لديه طريقة مميزة يشفي بها الجراح، وأفضل من هذا بإمكانه أن يوضّح لنا أنه ليست كل الجروح بحاجة للشفاء، وليست كل الندوب قبيحة”
ولعل أقصر وأدلّ وصف للأدب، يتمثل في قول لؤي عباس: “لقاء مصائر لا يخلو من فجيعة”

أما أنا فأرى الأدب كمجلس عزاء أزلي لا ينفضّ أبدًا.