حكاية عن (نهاية)

في كتاب (بلدي المخترع) حكت إيزابيل الليندي حكايات عن غرابة الأطوار الممتدة في أسرتها كإرث عائلي، وروت ضمن ما روته الحكاية التالية: “كان أحد أخوالي يخلع بنطلونه في الشارع ليعطيه للفقراء، وعادة ما كانت تظهر صورته في الصحف بالسروال الداخلي، لكن أيضا بالقبعة والسترة وربطة العنق. كان مُعتدًّا بنفسه إلى حدّ أنه ترك في وصيته تعليمات كي يوارى التراب واقفًا. وبذلك يستطيع أن ينظر إلى عيني الربّ مباشرة حين يقرع السماء”
يوم قرأت هذه الصفحات، فكّرت في غريبي الأطوار الذين عرفتهم في حياتي -وهم كُثْر- لكنّ أول من يخطر في الذهن دائمًا هي (نهاية) وهذا اسمها، ولا أعرف سر الاسم. كانت (نهاية) تجسيدًا حقيقيًا لمن يعطيك الأشياء من آخرها، من النهاية يعني، بلا مقدمات ولا تردد ولا مداراة. في أيام المرحلة المتوسطة قصّت شعرها قصّة قصيرة جدًا ولم تكن تلك القصّات شائعة في أواخر التسعينات بين بنات المدرسة ولم تتسامح معها الإدارة، وحين يوقفونها صباحًا بتهمة التشبّه بالرجال، تردّ: لا بس قصيته عشان ما أمشّط
وفي الثانوية عاد شعرها طويلا يتجاوز مرفق يدها وربما أطول، ولم تكن تمشطه فعلًا، كانت تلفّه بشكل عشوائي وتثبته أعلى رأسها. ولم يكن هذا سبب غرابة أطوارها في نظري… لكنها كانت ترتدي مريول المدرسة بشكل مقلوب، تضع السحّاب (السوستة) في الأمام، وياقة المريول في الخلف. وحين ينبهها أحد: “نهاية مريولك مقلوب” تردّ ببرود يصفع أحكامنا المعتادة: “وش دراكم إنه مقلوب؟ مكتوب عليه أمام وخلف؟”
وكانت في أيام ترتديه بالشكل المعتاد؛ الياقة إلى الأمام والسحّاب في الخلف. وحين نقول لها: هاه ليه الحين صلحتيه وما لبستيه مقلوب؟ توضح لنا ببرودها المعتاد: طالما للمريول جهتين مو مكتوب عليها أمام وخلف هي وحدها تحدّد الأمام والخلف بهواها.
كان صوتها جميلًا حين تغنّي، وأتذكّر مرة غنت لي أغنية لطلال مداح: وهذي سيدي كل الحكاية.
معك في الحب ما حسيت راحة،
أنا أرجوك لا تحكي ورايا،
‏تعال اجلس معي واحكي بصراحة.

ولم أكن أعرف الأغنية ولم أسمعها من قبل، فوعدتني بتسجيلها في كاسيت. وبالفعل وفت بوعدها. أيامها كان طلال على قيد الحياة، وروابط النت الحالية لم تُخترع بعد، وتسجيل الأغنية يتطلب وضع جهازي تسجيل وتشغيل الأغنية في أحد الجهازين وضغط زر التسجيل في الآخر… ولم تكن المسجلات ذات البابين متوفرة في كل بيت حيث يلتقط جهاز التسجيل صوت الكاسيت وحده ولا يلتقط الضجيج، بينما طريقة التسجيل من جهازين كم عذبتنا بإعادة التسجيل من جديد ومسح الشريط بسبب ضجيج مفاجئ، أو بكاء طفل، أو صراخ أم، أو رنين جرس… الخ.
أعطتني الكاسيت، وسمعت الأغنية وكانت أغنية جميلة جدًا، في المقطع الأخير يتداخل مع صوت طلال صوت صفعة باب، ثم رجل يرفع صوته يخاطب طفلًا يبكي، وضجيج أبواب في الخلفية مع نداءات أهلها. كنت أتمنى أيامها أن التسجيل أكثر صفاء ووضوحًا. وكان من الممكن أن أطلب منها أن تعيد تسجيل الأغنية لي، أو تعيد تسجيل المقطع الأخير على الأقل. لكن أعرف أنها ستقول: وش دراك إنها أصوات أهلي؟ يمكن أهل طلال تهاوشوا…
حاليا حين أسمع الأغنية على ساوند كلاود أتحرّى صفعة الباب فلا أسمعها، فأتذكر مريول نهاية المقلوب.
وحين أسمع أغنية طلال (نهر الخلود حبك بين الضلوع مجراه) يبكي طفل في تسجيل بروفة الأغنية الوحيد الموجود على الإنترنت والذي لا علاقة له بنهاية. لكنني أسمع صوتها في ذهني: “وش دراك إنه مقلوب؟ مكتوب عليه أمام وخلف؟”

5 رأي حول “حكاية عن (نهاية)

  1. ممتع جدًا، في إحدى القصص التي نشرت لي في ملحق الرياض الثقافي قبل 25 سنة أو أكثر كتبت:
    ضحك
    (1)
    بعد جهد عمل يوم كامل، لم أتمالك نفسي من الضحك وأنا أقرأ إحدى الروايات لا لأنها مضحكة، أو لأني مررت بجملة أضحكتني، أو لأني كنت أقرأ وأنا في حالة انبساط .. ولكن لأني نظرت إلى قميصي فإذا به مقلوباً.
    وبنيت كامل القصة على هذا القميص المقلوب..

    Liked by 3 people

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s