قطعان تدوس عشب الليل

رأسي مُثقل بالنعاس، رأسي معتلّ بمتلازمة التفكير الكثيف على المخدة، رأسي يضيء بمئة مصباح ومصباح حين أطفئ الضوء لأنام… في هدوء الليل تصطخب في رأسي مداهمة مفاجئة لوكر الأفكار والذكريات. يبدو الأمر وكأن فرقة عسكرية تقتحم حارة مظلمة وهادئة وعشوائية فيجفل النوم  من كل بيت فيها.

رأسي مثقل بالنعاس، يبتلعني ثقب الوقت الذي يسبق النوم، الوقت الذي يغرز كعبه في الأرض ويرفض السير كطفل نزق وعنيد. فأحتاج إلى فكرة تُنجدني من حشد الأفكار التي تحرّض الأرق. الفكرة التقليدية الأولى التي تخطر في ذهني هي عدّ الخراف، خراف تقفز فوق سور خشبي: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… الأرق ذئب، الذئب قادم، عقلي يحاول أن يتابع عدّ الخراف حتى أنام، أتوتّر وأنا أحاول استباق وصول الذئب فيجفل من توتّري القطيع، يتدافع بلا ترتيب فأفقد القدرة على العدّ… يتدافع القطيع ويدهسني.

رأسي مثقل بالنعاس، وهذا الوقت ثقب أسود يبتلعني فأجدني فيه وحيدة مع نفسي، يبدو الأمر وكأني أفتح الباب لي، فأدخل أكثر من مرة من أبواب تتكاثر كلما انفتح باب. أبواب تتدافع منها نُسخ لا تُحصى من نفسي، أتدافع مع نفسي بالطريقة ذاتها التي يتدافع بها قطيع الخراف فأفقد قدرتي على التنظيم والعدّ أيضا، أفقد قُدرتي على معرفة ذاتي لفرط حضوري وتكرار حضوري وثقل حضوري الذي يدهسني.

رأسي مثقل بالنعاس، والأفكار والمشاهد والصور والأصوات تتدافع في رأسي، تفصيلات صغيرة منسية تركها النهار في رأسي ورحل؛ كالكلمات العالقة التي كان ينبغي أن تُقال، الجُمل المفخخة التي انفجرت في لحظات غضب أهوج، والاعتذارات التي كان ينبغي أن أنقذ نفسي بها لكني تركتها في زحام النهار وظننتُ أنها لن تستدلّ عليّ فجاءت الآن لتنفرد بي.

مشاهد من البيت المحتشد الذي زرته اليوم، الأحذية التي كانت مكوّمة في مدخل الباب المكتظ بالزائرين تترك المدخل وتطأ رأسي المثقل بالنعاس، وتدوس بكعوبها المتفاوتة قلبي حين تذكّرني بوجه العاملة المنزلية الغريبة والوحيدة والمجردّة من الأُنس وسط زحام البيت الذي تخدمه، الأحذية المكوّمة تشمت بقدمي العاملة وتذكرهما كم ابتعدا عن الديار.

رأسي مُثقل بالنعاس، ويزداد هذا الثقل مع حضور المشهد البطيء والكئيب لصبية نحيلة في بدء المراهقة كانت تمسّد شعرها حيرة وارتباكًا بين الزائرات، ونظراتها الخائفة تفتّش في عيون الآخرين عن أي دلالة موافقة أو نظرة رفض كي تتوقف عن ارتجال نفسها وتحصل من خلال الآخرين على الدليل الإرشادي الذي ينبغي أن تسير عليه حين باغتها عمرها ونقلها من طفلة إلى امرأة. هذه الصبية المراهقة هي أنا في وقت مضى، هي أنا في أكثر من موقف مضى… في رأسي الـمُثقل بالنعاس يدوي سؤال ثقيل: أما زلتُ أنا كما أنا؟

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تفوح رائحة قهوة دارت في مجلس النساء إلى جانب صحون الحلا والشوكولاتة التي عجزت حلاوتها عن كسر مرارة الأحاديث، صحون حلا وشوكولاتة هزمتها ملوحة دمع الجارّة التي كانت تُنصت إلى قصص المواساة من نساء جفّفت التجربة عيونهن، ورسب الملح في حناجرهن ووسم أصواتهنّ بحُرقة معتادة أوهمتهن أن هذه الملوحة الحارقة هي الطعم الطبيعي للكلمات.

 رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تنتشر رطوبة غسيل جديد لثياب قديمة جمعنها الجارات لأم أيتام فقدت عائلها، وتعولهم من اللاشيء بسبب عائل لم يشأ أن يجعلها تُحقّق لنفسها أي شيء، ليظلّ كلّ شيء… لكنه لم يظلّ.

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تجفّ الرطوبة، ويهبّ بعدها هواء حار يبعثه حفيف الثياب القديمة نفسها، بعد أن صارت ثقيلة ثقيلة جدًا بشعور الخجل والضآلة والانكماش والتأنيب أمام الفرح المتجدد الذي استقبلتها به أعين المحتاجين.

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي أشياء كثيرة لا أعرف ماهيتها وتوصيفها، لكنها تتدافع، تتدافع في القلب فيضجرني وقع خطاها وتعثّرها. أستدعي قطيع الخراف وأحاول من جديد أن أستغرق في العدّ حتى أنام، القطيع لا يأتي، لا يصدّقني، تتكرّر قصّة الراعي الذي كان يستغيث بأهل قريته ويدّعي أن ذئبًا هاجم القطيع، وبعد أن يصدقوه أكثر من مرة ويكتشفوا كذبته أكثر من مرّة يمتنعون عن المجيء في المرة التي يجيء فيها الذئب فعلًا، ويفتك بالخراف.

رأسي ثقيل بالنعاس، والقطيع لا يصدّقني ولا يجيء… أخشى من ذئب الأرق، أشيح بوجهي نحو الجدار، أرفع المخدة التي اختنقت بأفكاري من تحت رأسي وأغطي بها وجهي، أحاول أن أتخفّى عن الذئب، أنكفئ على ألف صوت ونظرة وانكسار وصرخة وهزّة قدم مرتبك ونبرة صوت مختنق ومشهد دمعة عالقة… هذا الليل ثقب أسود بلا مخرج طوارئ، تحاول ساعات الليل أن تفرّ وتنجو من ذئب الأرق، تتدافع ساعات الليل، تتدافع كالقطيع، ويحضر الذئب، يفترس الليل الذي تهاوى… يطلع النهار، ورأسي مُثقل بالنعاس وعليه أن يواجه النهار بهذا النعاس الثقيل.