إلى انتصار

مرحبا
حان الوقت إذن. وكنتُ قد كتبت نسخًا متعدّدة من هذه الرسالة في ذهني فقط، طوال الأيام الماضية كنت أعيش في ذهني ما يشبه المونولوج الطويل بيني وبينك لا يتحدث فيه سواي، للأسف!
حين كتبت رسالة إلى رهف في عيد ميلادها العشرين كتبتها بإيعاز منها، طلبت مني أن أنصحها، وأنا لا أحب نصح طالباتي فكيف أنصحك أنتِ؟ لا أتخيل أبدًا أن أقف منك موقف الناصحة ولا أظنك تتخيلين وإن كان بوسعك هذا فأرجوك خربشي هذه الصورة بسرعة بسرعة. ولا تسمحي لها بالورود على ذهنك مرة أخرى.
ماذا سأقول في هذه الرسالة التي وعدتك بها إذن؟
لنقل إنها حديث ودّي وفضفضة ارتجالية من ثلاثينية متمرسة إلى ثلاثينية مستجدة. فمرحبا بك في نادي الثلاثينيات الذي سبقتك إليه بنصف عقد. كان بودّي أن آخذك في جولة افتتاحية وأعرّفك على الزمان الذي سبقتك إليه، أدلّك على القوانين والسياسات المتّبعة.
لكنّي بعد أن اجتزت عتبة الثلاثين عرفت قانونًا واحدًا، وأسير على سياسة واحدة فقط.
القانون ينصّ على التعهد بنبذ أي قانون يتعلّق بمتطلبات العُمر، من الذي يحق له فرض قوانين عليّ؟ ومن سيعرف ما يناسب عمري وما لا يناسبه سواي؟ إنه عمري وحدي، مساحتي الزمنية، لا أتشاركها مع الآخرين إلا بالمودة والاحتفاء بقربهم لكنّي لا آخذ سنينا من أحد ولا أستعير أيامي من أحد ولا أتقدّم في السن من دفتر حسابات عمر أحد سواي، وبالتالي ليس لأحد أن يضع لهذه المساحة الزمنية قوانين وشروط غيري.
أما السياسات المتبعة فهي سياسة نقض البديهيات ذهنيًا وتصوّر سيناريو بديل لكل شيء، ومن هنا أستكشف أن كل السياسات المتبعة هباء لا معنى له، افتراضات، اجترار تجارب ومشاعر من آخرين…
لربما يبدو كلامي غامضًا، ولأبسّطه سأعطيك مثالًا. السياسة الزمنية المتبعة في حساب أعمارنا هي عدّ السنين، والسنة تتألف من ٣٦٥ يوم، واليوم من ٢٤ ساعة، والساعة من ٦٠ دقيقة والدقيقة من ٦٠ ثانية.
أحب نقض هذه المسلّمات في ذهني وإنشاء سيناريوهات افتراضية… كأن أتخيّل أن الشخص الأول الذي اختار التحديد الزمني قرّر أن تتألف أيامنا من أربع دورات، من نهارين وليلين. فيصير اليوم ٤٨ ساعة. ولو حدث هذا فأنتِ الآن تدخلين إلى عامك الخامس عشر.
أتصوّر لو كان هذا الشخص الذي ابتكر حسابات الزمن كان مهووسًا بالتصنيف والتجزئة أكثر. فقرّر أن يتألف كل يوم من لون واحد فقط، يوم من نور واليوم الثاني من ظلام والثالث من نور والرابع من ظلام. هذا سيجعل الشهر من ٦٠ يومًا. وهذا يعني أنني سأهنئك الآن بعامك الستين藍
أرأيتِ جدوى سياسة نقض السياسة؟ الأمر ليس إلا إحصاء رقمي قرّره شخص ما في زمن سابق وبناء عليه قرّرنا أعمارنا وسيرورة حيواتنا ومشاعرنا… لذلك لا أفهم خوفك من الثلاثينات، أو دهشتك من شعورك الحيادي تجاهها. أظن من الطبيعي أن تدخلي الثلاثين وكأنك تدخلين غرفتك في صباح اعتيادي، لا شيء مفزع في الأمر. لا تجاعيد تتربص خلف الباب، لا شعر أبيض يختبئ تحت الوسادة ليلتصق برأسك فجأة، لا موت يتمدد تحت السرير يحصي خطواتك ويضبط مؤقت ساعته للانقضاض… لا، كل شيء مجهول. وكل شيء يأتي بتدريج بطيء لا محسوس… والشعور بالتقدّم بالعمر إحساس ستشعرين به في أول يوم من الثلاثين ربما، وفي آخر يوم من عقدك الرابع ستشعرين أن عمرك ما زال غضًا كأحلام الوليد… كذلك السعادة والحب والحلم والأسى… ليس لأي من هذه الأحاسيس جدول مواعيد. إنها تأتي وفق سيرورة أحداث ليس بيدنا تسييرها عادةً، فما الداعي لترقّبها وابتكار جدول مواعيد لاستدعائها وفق التقسيم الزمني الذي وضعه شخص ما في زمن سابق وبناء عليه أنتِ اليوم تدخلين عامك الثلاثين… ولو تغيّر شيء في الخطة الزمنية المتبّعة لتغيّر الرقم الذي يُشير إلى عمرك. ولذلك أومن تماما أن العُمر رقم، والحياة إحساس لا علاقة له بالأرقام غالبًا.
لا معنى للأسى من مضي العُمر في هذا العمر يا انتصار، لا معنى للخوف من الثلاثين… حين أفكّر في الثلاثين  -مع إني عرفت فيها الوجه الأبشع للاكتئاب ولأشياء مريرة-  أتذكر دائما ليالٍ قاسيتها في عشريناتي، قاسيت فيها من مرارة ظلم وخوف فظيع… أتذكّرها وأقول لو كنت أعرف في تلك الليالي أن حياتي في الثلاثينات ستكون بشكلها الحالي الذي أحبه، لما بكيت في تلك الليالي ليلة واحدة، ولكني لا آسى على شيء، ولا أندم… فأنا حصيلة تلك التجارب… أتمنى أحيانا لو كان بوسعي اجتثاث كثير من الأيام البشعة والمواقف المؤلمة من ذاكرتي تماما وكأني ما عشتها، لكنّي متيقنة أني سأفقد مع ذكرياتي هذه بعض المبادئ التي خرجت بها منها، سأفقد مشاعر كثيرة وخلاصات مدهشة… وسأفقد بعضي إذن، ولذا لا آسى على شيء ولا أرغب في تنقيح عمري.

يا انتصار الحبيبة ليس لدي ما أقوله لك سوى ادخلي للثلاثين بلا خوف… ادخلي وكأنك تدخلين غرفتك في ضباح اعتيادي، مع شعور غامض بالبهجة، واسمعي أغنية جميلة يبدأ بها صباحك الثلاثين، ولتكن هذه
https://soundcloud.com/aroubaroub/7hnasu07rfl2?ref=clipboard

وتذكّري أن العُمر هو بيتك الذي سيتسع بالتقادم، فلا تستوحشي من اتساع البيوت… كدّسي الذكريات الجميلة والخلاصات البديعة واستضيفي الأحبة فيه واستبقي روائحهم وآثار خُطاهم، وأثثي حجرات هذا البيت باليقين، وافتحي شبابيكه دائما على دهشة التلقي لكل جديد، واكسري أي لافتة إرشادية.
واعتذري لنا نيابة عن العالم كي نحب العالم، واعتذري عن السيئين الذين لا يموتون مبكرًا، لكن عيشي طويلا طويلا لأجل خير العالم ❤

رسالة إلى رهف في ميلادها العشرين

3 رأي حول “إلى انتصار

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s