
أشتاق إلى الأيام العاديّة
الأيام التي تمرّ، تمرّ فحسب
تمرّ ولا يسحبني فيها الوقت المتسارع من تحت أنقاض الشعور بالاستسلام، فيسحلني خلفه لألحق بحياتي… فقد مضى كل شيء إلى الأمام، إلا أنا. ما زلت مسجاة تحت أنقاض تراكمات من العمل المؤجل، والحزن بأثر رجعي، والخوف الاستباقي، والسأم المستمر والحاضر .
أشتاق إلى الأيام العاديّة
تلك الأيام العاديّة، الباهتة، هي تعريفي لجودة الحياة.
أيام بلا نور ساطع أرى فيه حقيقة الأشياء بشكل مفزع.
وبلا ظلام موحش تمدّ فيه أشباح الماضي ظلالها الضخمة، فيعتم قلبي.
تلك الأيام الباهتة، هي مشهدي المفضل
حيث يمر الوقت كفيلم قديم بألوان شاحبة على شاشة منسية في صالة بيت قديم، لفرط الشعور فيه بالألفة ماعاد أهله يقيمون فعاليات الواجب الأسري، ما عادوا يشعرون بالحاجة إلى التحلّق حول شاشة واحدة لمشاهدة هذا الفيلم الرتيب، ما عاد الكلام ضروريا كي يفهم بعضهم البعض، ما عادوا يشعرون بالحاجة للاندماج وتجديد التعارف… إذ يعبرهم الوقت وكل في فلكه يسبح، لا يغرق أحد منهم في الوحدة، ولا يمدّ يده بحثًا عن قشة إنقاذ.
أشتاق إلى الأيام العادية
أيام لا أستيقظ فيها بشعور متقد، ورغبات كثيفة، وبهجة غامضة، ونشاط مريب.
فأقرر فجأة أن أستعيد حياتي. السؤال المتوقع بعد جملة كهذه: أين ذهبت حياتي؟ لا أعثر على إجابة دقيقة، أتذكر العام الذي ركنت فيه حياتي في مكانٍ ما، ونسيتها هُناك… إذ كنتُ مشغولة عنها بهوامشها. في البدء كان عليّ صدّ هجمات ذاكرة مسعورة ربّيتها في سنين غفلة وضياع. ثمّ صار عليّ استعادة ذاتي كما تستعيد دولة مهزومة أسراها الذين ما وقعوا في الأسر إلا لأنهم جرحى ومعطوبين وعاجزين، ولن يعيدهم المنتصرون إلا لأنهم صاروا بلا جدوى، لا فائدة منهم ولا فائدة حتى من المساومة عليهم.
أستيقظ في صباحات هذه الأيام غير العادية، المتوهجة، فتتوهج بداخلي رغبة مفاجئة في استعادة حياتي. لا أعرف المكان الذي قد أستعيدها منه، لذا أبدأ في التحرّي وجمع أدلة فقدها، فإدراك الفقد هو الخطوة الأولى في طريق البحث عن المفقود… أجمع أدلّة مادية محسوسة لا تكذب، من هذه الأدلّة مجموعة أكواب تخرج من تحت سريري لا أعرف متى وصلت إلى هنا، وكمية مُفزعة من شرائط الحبوب المنوّمة أجدها في الدُرج المجاور لسرير نومي، كُتب كثيرة سقطت من تحت مخدتي وعلقت بين السرير وبين الجدار فتركتها هناك لأن التفكير في أي تحرك بسيط محسوس أو معنوي يستنزف روحي، الفواصل المدسوسة بين صفحات الكتب التي نجت من السقوط ولم تنجُ من الإهمال، وتركتها حين خذلني تركيز ذهني فعجزت عن مواصلة القراءة…
حين أنتهي من جمع هذه الأدلّة، أبدأ التحقيق في الوقائع الكبرى والملابسات التي تُشير إلى فقد حياتي، تأخري الدراسي أولًا، تأخري الدراسي ثانيًا، تأخري الدراسي ثالثًا. ثمّ مشاريعي التي كنتُ أطاردها عُمري كله، وحين أتت بها الفُرَص إلى بابي، علق المفتاح في الباب ولم أبذل جهدًا لاستخراجه، فتركت بابي موصدًا في وجه الفرص.
تحضر الفرص الضائعة في نهاية الأيام غير العادية، الأيام التي استيقظت في صباحاتها برغبة مفاجئة في استعادة ذاتي، استيقظت ببهجة غامضة، ونشاط مريب…. وما أن تداهمني الفرص الضائعة حتى أهوي من علياء المشاعر الجيدة في الأيام غير العادية، أسقط، أرتطم، ثم أستيقظ في اليوم التالي وأجدني مسجاة تحت أنقاض تراكمات من العمل المؤجل، والحزن بأثر رجعي، والخوف الاستباقي، والسأم المستمر والحاضر … فأشتاق إلى الأيام العاديّة.