
فيما كنتُ أفكّر في موضوع أتأمل فيه، وأترك لأفكاري التماهي معه، ولذكرياتي التداعي لأجله والتنادي استجابة لحضوره. كنتُ أقرأ أحد مقالات كيليطو من كتابه (في جوٍّ من الندم الفكري) يتحدث فيه عن ألف ليلة وليلة، وكيف اختزن عقله فكرة أن أبطال هذه الحكاية لا ينامون الليل، تسهرهم الحكاية، حتى أسهرت قارئة أجنبية عيني كيليطو حين أخبرته أن ترجمة أنطوان غالان لليالي الألف تتضمن إشارة متكرّرة إلى نوم الأبطال، متمثلة في سؤال دنيازاد لأختها شهرزاد: إن كنتِ لم تنامي…
وهذه ليست إشارة قاطعة إلى نوم شهرزاد، فقد تكون نائمة أو لم تنم بعد لحظة سؤال أختها… وإن كانت تنام وأيقظتها دنيازاد فمن يجرؤ على إيقاظ شهريار من نومه ليُنصت إلى حكاية، فما هدف هذه الحكايات غير إخماد بطشه وهدهدة شروره ودفعه إلى النوم بعد أن ظل طيلة الليل يطارد الحكاية من فم شهرزاد حتى يدركهما الصباح…
لا يعنيني إن نام شهريار وشهرزاد ودنيازاد، أم لم يناموا… فقد أيقظ ذكرهم الفكرة في رأسي، فكرة التأمل في النوم والأرق، في يقظة الطفل الذي كنّاه، ونومنا الأبدي الذي يقتادنا العُمر إليه، أو ربما يقظتنا المرتقبة بعد عيش شبيه بغفوة قصيرة اكتظت بالأحلام… فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، و”إنما العيش مثل السهاد”
نقلني مقال كيليطو إلى معاناة الطفلة التي كنتها لأجل أن تحظى بحرية السهر، وبمعاناة المرأة التي صرتها من سجن الأرق.
أربط بين ليل شهرزاد ودنيازاد وشهريار الذي يقضونه في السهر ومسامرة الحكاية، مع صباحات عُمرنا، زمن الطفولة، حين كنا نرجو في كل ليلة أن لا يجبرنا الأهل على النوم، نفكّر في السهر كمغامرة لذيذة بلذة النوم الذي صرنا ننشده اليوم… وأربط بين ذاك الحلم بالسهر وبين سحر الحكاية في ألف ليلة وليلة… في ليالينا تلك كنّا أطفال تربينا الدهشة، فلا نريد أن نختم النهار، ولا أن نهدر الليل في نوم يفوتنا خلاله الوقت، فنخسر لحظات من اللعب، والإنصات لحكايا الكبار، وابتداع الحكايات بيننا نحن الصغار.
اخترعت الجدّات الحكاية لتهدأة مخاوفنا من الظلام، أو لتهدئة شغبنا كي يجد الكبار وقتًا يحظون فيه بهدأة النوم… تماما كما فعلت جدّتهم شهرزاد لتنقذ حياتها، وحياة باقي النساء.
أتأمل ذاك الحلم القديم بالسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، دون أن تسجننا الأوامر في الفِراش… فأتذكّر قصة لبورخيس بعنوان (الآخر).
في هذه القصّة يلتقي بورخيس الكهل، ببورخيس الشاب… لقاء عُمرين في لحظة واحدة. يقول بورخيس الشاب لبورخيس الكهل: “الغريب هو أننا نتشابه، بيد أنك أكبر سنا مني وشعرك رمادي” لا يصدّق الشاب أن هذا الكهل الماثل أمامه هو نفسه القادمة من المستقبل، يحاول الكهل إثبات الأمر للشاب فيخبره بتفاصيل تخصّه، يصف بعض ممتلكات منزله، وترجمات الكتب التي تتضمنها مكتبته… لكن الشاب لا يصدّق، يظن أن الأمر حُلمًا، وطالما هو الحالم فمن الطبيعي أن يلتقي شخصًا في منامه يعرف ما يعرف هو، فالحلم يدور في رأسه…
لكن الكهل يقول:
إذا كانت هذه الصبيحة وهذا اللقاء حلمين، فكل منا لا بد أن يعتقد أن الحالم هو. ربما توقفنا عن الحلم، وربما لم نفعل… وبين هذا وذاك نحن مرغمان على قبول الحلم، مثلما قبلنا الكون، وقبلنا أن نكون مولودين، وقبلنا أن نرى بالأعين، ونتنفس·
يسأل بورخيس الشاب بقلق:
-وإذا تواصل الحلم؟
ويتابع السارد على لسان بورخيس الكهل: “ولتهدئته، وتهدئة نفسي، ادعيت السكينة. كنت خاوي الوفاض منه في الواقع. قلت له: ها إن حلمي قد دام سبعين سنة. وعندما نتذكر، في نهاية المطاف، فإنه لا يكون بمستطاعنا إلا أن نتلقى ذواتنا. وذلك ما يحدث لنا الآن -عدا أننا اثنان- ألست تريد أن تعرف شيئا عن ماضيّ، الذي هو المستقبل الذي ينتظرك؟”
فالحياة في نظر بورخيس نوم طويل، وحلم مستمر… واللقاء مع ذاته القديمة لم يجعله يتقارب معها، على العكس، لقد شعر بالمسافة التي حفرها الزمن، والفجوة التي حدثت في حياته الشبيهة بحلم مخاتل: “لا يمر نصف قرن هباء، وتحت تأثير حديث شخصين ذوي قراءات متنوعة وأذواق مختلفة أدركت أننا لا نستطيع أن نتفاهم. كنا مختلفين بالغ الاختلاف، متشابهين عظيم التشابه. وما كان بإمكاننا أن نتخادع، الأمر الذي يجعل الحوار صعبا. لقد كان كل منا نحن الاثنين نسخة ساخرة من الآخر. وكانت الوضعية مفرطة في الشذوذ حتى تستمر مزيدا من الوقت، والنصح والمناقشة لم يكونا مجديين، لأن مصيرهما الحتمي كان أصير ما أنا هو”
والآن أجدني مثل بورخيس، أتذكّر الطفلة التي كنتها يومًا ما، والتي سأحاول ملاقاتها في هذه التدوينات كي تعينني دهشاتها على التأمل بعد أن بلغت عمر الرتابة، ويساندني وعيها المشتعل على نفض الرماد من عقلي، وتذكّرني كيف كانت تستمتع بانهمار شلال الوقت، ترقص على إيقاع خرير الوقت المنهمر، وتبلل جسدها الغضّ بمياهه المنسابة، لا تخاف اليباس، ولا تهرب خشية الغرق…. تلك البنت التي كانت تحب السهر، وصارت تشكو الأرق… تلك البنت التي كانت ترى في الليل مساحة إضافية ليقظة جذلانة، وصارت ترى في سواده كابوسًا يحتاج إلى ٤ حبات منوّمة.
سأتأمل في هذه التدوينات ليالٍ تقف بين المرأة التي أنا عليها الآن، والطفلة التي كنتها في يومٍ ما… أطول ليلة في هذه المسافة، أقصر ليلة، سأحاول الكتابة عن أسعد ليالٍ عشتها، وعن الليالي التي احترقت بفعل الانتظار، وتلك التي عانت موتًا بطيئًا حين أطبق الخوف يديه حول أعناقها وكتم أنفاسها.
وبعيدًا عن ليل شهرزاد الذي تضيء فيه الحكاية، وعن حلم بورخيس الطويل الذي أيقظه منه الموت، وقريبا من النوم والأحلام، أختم مع صوت وجيه عزيز:
“لمّا بنام بحلم وبعيش
لمّا بفوق، ما بفوقش بموت”