نَفَسي قصير، كاد أن ينقطع اليوم فأستسلم في بداية التحدّي… ثمّة أفكار كثيرة في رأسي، لكني أكسل من تدوينها. وهذا تضاد هائل، في رأسي صخب لا يهدأ وفي أيامي صمت مستمر وحاضر بثبات. وأشعر دائمًا أنني أعيش داخل نفسي أكثر مما أعيش خارجها، لذا أعاني من قلة الانتباه للمحيط الخارجي بشكل ملحوظ، لا تلفتني تفاصيل الأمكنة، ولا أحفظ الطُرق، وأنسى، أنسى بشكل لافت ومزعج، أنسى الأشياء اليومية البسيطة، طريقي، مكان أشيائي، الهدف الذي خرجت لأجله، الغرض الذي عدتُ لأخذه. أنسى مع إن من لا يعايشني بشكل يومي سأبدو له بكل تأكيد كما لو أنني امرأة لا تنسى أبدًا… فأنا أتذكّر الجمل التي تُقال بالألفاظ ذاتها، مشاعري تسبقني إلى التذكّر أحيانًا فأشعر ببهجة غامضة أو انقباضة قلب مريعة أو أي شعور بلا مقدمات وحين أسأل نفسي ما الذي استدعى هذا الشعور تكون أحيانًا كلمة قالها بطل في مسلسل أتابعه ذكرتني بموقف يتوارى في غياهب الزمن لكن شعوري به يستيقظ بشكل مفزع، أحيانًا رائحة عطر، أو خبز، أو حتى غبار… تستدعي في داخلي شعور تعب، أو غضب، أوخفة، أو حنين… يسبق الشعور الذكرى، وتبدو المواقف مثل متعلقاتي الشخصية التي أنساها في كل مكان وأبحث عنها لأستعيدها… لكن المشاعر هي التي تجعلني وتجعل الآخرين يعتقدون أنني لا أنسى…
وحديث النسيان والذاكرة في يوم كهذا يعيدني إلى ليلة قديمة، قديمة جدًا، قبل ما يقارب ربع قرن، لا أعرف كيف استدعيت هذه الليلة اليوم، ربما الرابط يكمن في أن هذه التأملات تستهدف الليالي، وتوافقت مع صبيحة صخب العالم للاحتفاء بعيد الأم.
أتذكّر ليلة قديمة جدًا لم تكن ليلة عيد الأمّ بالطبع، فحينها لم يكن الإنترنت قد دخل البلاد كي تزيد روزنامة مناسباتنا… كانت الليلة السابقة ليوم عرفة. ليلة ككل الليالي التي تظلّ أمي تحدثنا فيها في عتمة الليل حتى ننام. عرفت في تلك الليلة أننا نستقبل غدا يومًا غير عادي لأن أمي قالت: إن غدًا هو أصعب يوم على الشيطان. فالناس في هذا اليوم بين حاج لبيت الله، وبين متطوّع بالصيام أو متطوّع لخدمة الحجيج أو خدمة الصائمين.. في كل الأحوال هذا أتعس أيام الشيطان.. لم تأمرني أمي بالصيام، لكن فكرة الشيطان التعيس بدت في ذهني فكرة عظيمة، وخفت، خفت خوفًا حقيقيًا في أن يجد نفسه منبوذًا من الكل، وأتسبب أنا في سعادته بأي فعل سيئ، كالشتم والغضب والعناد أو أي فعل من أفعالي اليومية والمعتادة. أتذكّر اليوم التالي لتلك الليلة، لم أصم، خرجنا للعب بالدراجات، كنت في حالة تسامٍ تفوق عُمري، حريصة جدًا أن لا أغضب من أحد أو يغضب مني أحد، صبرت على أختي الصغيرة في ذاك اليوم كما لم أصبر من قبل، وكلما شعرت ببوادر غضب أو اشتباك أتلافى الموقف خشية أن أكون الوحيدة بين ملايين من البشر التي سيبتسم الشيطان بسبب أفعالها في يوم بؤسه العظيم.
أبتسم الآن من هذه الذكرى، أستدعي مشاعر التسامي تلك كلما غمر البياض جبال مكة، وصعد الحجيج جبل الرحمة ملبين متضرعين.
في كل يوم عرفة أتذكر الشيطان التعيس الذي تصورته آنذاك، أظن أنه ضحك كثيرًا بسبب أفعالي فيما بعد، لكني أدرك أني ما كنت ملاذه الوحيد كما تصوّرت من قبل… فالعمر الذي يزداد ينهب رصيدنا من اليقين والسذاجة، أدركت أن الشياطين في كل مكان… لكني في كل عام، في ليلة عرفة، ألبس بياض الطفلة التي كنتها ويندى قلبي لهذه الذكرى وأحاول جاهدة أن لا يبتسم الشيطان بسببي ولو ليوم واحد فقط… لا لأني أخشى أن أكون ملاذه الوحيد يومها، لكن لأني أريد أن ألوذ بنفسي، بالبياض القديم، بالسذاجة العذبة، باليقين المطمئن… وبابتسامة أمي.