ليل يستوطنه الحنين #تحدي_التأمل

بقدر ما ترهقني أحلامي وبقدر ما أشتكي من طولها وزحامها.. أفتقدها حين يُخيّل لي أنها غادرتني أو حين أستيقظ ولا أتذكرها جيدًا وبالكاد ألتقط منها مشهدًا أو مشهدين… لا أحب أن يكون نومي كتلة من السواد تأتي وتنجلي.
أحلامي حياة أخرى تتأخر فيها الوجوه التي غادرت حاضري وتأبى أن تغادر ذاكري. في أحلامي تستعيد الأيام الصاخبة صخبها، والأيام الجميلة جمالها. مثلًا في أكد مناماتي عاد جدي -رحمه الله-  ليحشو بندقيته بالبارود ليلة العيد كي يطلق رصاصة كان يطلقها سنويًا بعد كل إعلان عن رؤية هلال العيد. أختي العشرينية تزور أحلامي وهي طفلة لا تتجاوز الخامسة وأقابلها بعمري الحالي، في حلم لا أنساه خرج أبي و عاد شابًا في مثل عمري وربما أصغر، وجلس يحكي وأمي تضحك و وعدني باصطحابي إلى أماكن طالما تردد عليها في شبابه ومع أن الثلج كان يسقط في ذلك الحلم وكان الناس يلوذون بدفء بيوتهم إلا أني وعدت أبي بالذهاب معه مهما كلّف الأمر… كم أحب هذا التلاعب بالزمن في أحلامي، أحب عودة أبي إلى شبابه وأختي إلى طفولتها وأنا في عُمري الحالي أعيش معهم أعمارهم السابقة مرتين…  يعجبني في أحلامي أنها تهبني حياة لم أعشها وتهديني ذكريات لحظات لم أقبض عليها.
أما عن مسرح أحلامي الأكثر حضورًا فهو بيت طفولتي… الشائع أن نقول (بيت الأحلام) حين نتحدث عن بيت مستقبلي، أمّا أنا حين أقول (بيت الأحلام) فأنا أقصد بيتًا من الماضي تقادم عليه الزمن، وتآكل بنيانه لكنّه ظلّ عامرًا في أحلامي.
فما زلت أحلم بالبيت الأول الساكن في قرية هادئة، والمصطخب بالوجوه والحكايات.
كان البيت صغيرًا صغيرًا جدًا في واقعه، لكنه اتسع بصورة لا نهائية بعد أن غادرته فصار يتمدّد باتساع كل الضجيج الذي تحتشد به مناماتي، كان هذا البيت هو بدء إدراكي للأمكنة، ومُنتهى شعوري بالأمان والحُرية. بيت مكوّن من غرفة وحيدة وصالة وفناء أوسع من الوحشة ولذا فقد استعصى عليها، وصار مطواعًا للأنس، حاضنًا للقاءات الأحبة…
كان للبيت جدار مشترك مع بيت خالي وبيت جدتي الذي تتوسط ساحته الغرفة التي شهدت ميلادي وصارت فيما بعد غرفة لخالتي فيها خزانة خشبية صغيرة ألصقتْ على بابها صور فناني التسعينات، وفي داخل الخزانة روايات كثيرة ومجلات فنية ورسائل عذبة وأفلام فيديو، هذه الغرفة شهدت فيما بعد سهراتي الطويلة مع خالتي وحكاياتي الكثيرة وأسرارنا الأولى، في تلك الغرفة قرأتُ أجاتا كريستي لأول مرة وتعقبت مجرميها، عرفتُ المنفلوطي وانتشيتُ من سحر لغته، طاردت مع جين اير وجه روشستر، جمّدتني البرودة على مرتفعات وذرنج…
في بعض الليالي كان يصدر من سقف الغرفة صوت غريب يتبعه تناثر تراب من جوانب السقف نحو الأرض، لا أعرف ربما كان السقف ينزل ببطء وربما كان يهدد بانهيار وشيك، لكن الذي أعرفه أننا لم نخشَ من هذا الإنهيار أبدًا، بدت تلك الغرفة في قلبي دائمًا وكأنها غير مسقوفة أصلًا لفرط ماشعرت داخلها بتحرّر روحي…

ذاك البيت الصغير الذي هجرناه بشكل متقطع منذ طفولتي ثم هجرناه بشكل أبدي عندما بلغت السادسة عشر اتسع ليصير كل شيء، كنت أراه في أحلامي وقد صار مقرًا لدراستي، ثمّ مقرًا لعملي فيما بعد، كان مسرحًا لكل المنامات، كان المكان الذي يحلُّ بديلًا في منامي لكل الأمكنة. وحين زرته قبل ست سنوات في تمام عامي الثلاثين أفزعني حجمه الصغير وتنامي الشوك في فنائه وسقوط سقف المطبخ وظلامه المريع وساحته الأصغر من صورتها في ذاكرتي، فخفت أن يغادر أحلامي، كان قد دخل ضمن حسابات ميراث جديد، وماعاد لنا… ومازال مهددًا بالهدم، لم أخشَ عليه من شيء إلا من التهدّم في عقلي اللاواعي، أفزعتني فكرة وجود مكان آخر في مناماتي سواه، وتحقّق فزعي مدة من الوقت، بدأت أحلم بأمكنة أخرى… لكنه عاد بعد ذلك، حلمتُ مرة بمطرٍ غزير ينهمر فوقه ورائحة الطين تتسيد الحلم، استيقظت أستسقي له بقدر ما سقى عُمري وذاكرتي وأحلامي بالألفة والحنين. حلمتُ مرة أني أسير فيه على غير هدى لأفتش عن حذاء أبي وأخبر أختي أني متجهة إلى خليج العقبة، اتسعت الخارطة إذن… حلمتُ أيضًا أن فيه حجرة مظلمة تتكدس فيها أسلحة حروب العالم فأغلقتها مع أختي وهربنا وكأننا جرّدنا العالم من القتل. حلمتُ مرة بلاجئين من فلسطين يستوطنون عراء الأرض المجاورة للمنزل وفوقهم طائرات تقصفهم بالجمر… وهو ذات البيت الذي حلمتُ بأبي يخرج منه ويعود إليه شابًا في نفس عُمري، ويجلس بيننا يحكي حكايات شبابه وأنا أتأمله بفرح وحنين وشعور يصعب على الوصف مبتهجة من أننا صرنا في عمرٍ واحد وأني أدركتُ شبابه هكذا بكل بساطة.
لم يعد حضور البيت طبيعيًا في أحلامي وبالكثافة السابقة حين لم يكن في الحلم مكانٌ لسواه، صرت أترصّد الحلم الذي يأتي به وأستيقظ منه بنشوة وطمأنينة… لكنّي منذ شهور لم أعد أحلم به، وانتقلت أحلامي للبيت الثاني، بيت أبي، صرتُ أرى بيوت القرية مُغطاه بالثلج أحيانًا، وأحيانًا يغمرها المطر… (البرد) هو الموضوع المشترك بين كل الأحلام التي تحتضنها قرية أبي. ولا أهتم بهذا، ما يهمني فعلًا هو أن لا تتمرد مناماتي على البيتين، بيت أمي وبيت أبي، وأن لا تجد لها مسرحًا خارج حدود تلك القرى التي تسكن رائحتها دمي.
في كتاب (جماليات المكان) يشرح غاستون باشلار الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما خصوصا البيت فهو رمز الألفة المحمية “البيت أكثر من منظر طبيعي، هو ظاهرة نفسية، حتى لو رأينا صورا خارجية له؛ فهو مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم… باشلار يرى أننا منذ وجدنا في العالم كان الوجود هنيئا في “بيت الطفولة”، كان الإنسان منخرطا في الهناءة، حين كانت الهناءة مرتبطة بالوجود؛ والهناءة هنا تشمل أوقات ضجرنا وبكائنا التي مارسناها في ركن منعزل من البيت؛ إن كل الصور الأليفة المرتبطة بالبيت في خيالنا وأحلامنا يربطها باشلار ببيت الطفولة، فهو جذر المكان الذي تشكل فيه خيالنا ومارسنا فيه أحلام اليقظة، فالحياة كما يرى باشلار تبدأ بداية جيدة، تبدأ مسيجة، محمية في صدر البيت”*
وعودُا على تأملات الليل؛ أسائل ذاكرتي عن الليالي التي لا أنساها من ذلك البيت، فتستدعي ليالي رمضان والأعياد. أجمل (رمضانات) عشتها كانت في أواخر التسعينات. كان لرمضان أيامها رائحة تميّزه، كنت أتحرّاه إلى درجة أنّي أُحِيل الصفحة الأخيرة من كتبي الدراسية إلى تقويم يَدويّ أدوّن فيه تواريخ الأيام التي تفصلنا عن رمضان وأشطبها يومًا بيوم كما يفعل السُجناء في انتظار لحظة الفرج. أهم أسباب حُبّي لرمضان أيامها (الإجازة). ففي بدايته ينتهي الفصل الدراسي الأول وتبدأ إجازة الربيع. ويُصادف رمضان فصل الشتاء ومواسم المطر، فنقضيه في هذا البيت بفنائه المتسع، وغُرفته الضيّقة التي تُظللنا من شمس النهار، وما أن تغرب الشمس حتى تُخرِج جدتي مراتب السُرر الداخلية وتفرشها على السُرر الحديدية الخارجية المتجاورة في الفناء، وتُدير التلفاز إلى (سدّة) الباب وتوجه شاشته بإتجاه ساحة البيت فنقضي ليلنا في هذه المساحة المفتوحة المسقوفة بالسماء والنجوم… أو كما يقول أهل قريتي (نرى ربّي وربّي يرانا). أتذكر أيامها أن برودة الجو كانت تشتد إلى حدّ خروج (البخار) من أفواهنا، والسماء تُمطر حتى تسيل السقوف الخشبية لبيوتنا الشعبيّة… ورغم هذا لا نتضجر من المطر.
أمّا ليالي الأعياد، يحضر في قلبي من ذكراها الندية شعوري في ليلتين متتاليتين؛ الليلة الأولى هي ليلة العيد التي أظلّ مستيقظة فيها أختبئ في فراشي وألتحف اللهفة وأتحرّى صوت أذان الفجر بقلب يتوقّد بالفرح والترقّب.
والليلة الثانية هي الليلة التي تعقب أول يوم في العيد،حين آوي إلى فراشي بشعور حزين، وبقلب ثقيل، لا لشيء إلا لأن العيد (انتهى خلاص) انتهى وأشعر بتأنيب خشية أن أكون لم أفرح كما ينبغي، فقد كان قلبي الغضّ آنذاك يشعر أن الفرح واجب ينبغي أن أوفيه حقّه… وأي شعور أعظم من استشعار (واجب الأفراح)؟