
أستعير مصطلح (التناصّ) من حقل النقد الأدبي، وآخذه إلى سياقات الزمن. يعرّف النقاد التناصّ تعريفات كثيرة ملخصها يقول إن التناص هو حضور نصّ سابق في نص لاحق، أي العلاقات المتبادلة بين نصّ ونصوص أخرى… فليس للنصّ الأدبيّ وجود مستقلّ، كلّ نصّ له مرجعيات يعود إليها، وكل كاتب هو حصيلة قراءاته… وما دامت اللغة مشتركة، ففي النصوص مشتركات… وكذلك الزمن، حياتنا نصّ طويل يكتبه الزمن، وما دام الزمن حصيلة وتراكم، فهو أيضا يقوم على مبدأ التعالق، يستند المستقبل على الماضي، يتعالق الحاضر مع ما فات، اليوم يُسهم في تدوين الغد، والغد سيراجع ويحرّر ما يكتبه فينا اليوم.
وما دامت هذه التأملات تسترجع الليالي، فإني أرى ليلتي هذه تُصاغ من مرجعيات الليالي التي مضت، وحين أفكّر في تناصّ الليالي فإن أول ما يخطر في ذهني هو الليالي الحزينة، الليالي الطويلة التي ظننتها لن تنقضي… ليالٍ تتناصّ مع ليل امرئ القيس الطويل الذي ناداه قبل أكثر من ألف عام ونصف قرن (ألا أنجلِ) الليل الذي جثم على صدره وكان ثقيلًا منيعًا على المغادرة كما لو كان مشدودًا إلى الجبال بأوثق الحبال… ليالٍ لم أستطع النوم فيها من شدّة الألم الجاثم على قلبي، ليالٍ شاسعة بفعل تحالف ظلمتها مع ظلمة حُزني وخوفي… ليالٍ أتذكّر بعضها الآن ولا أرغب في سرد أحداثها، منها ليالٍ عشتها قبل أكثر من عقد، حين كنتُ في غضاضة عُمر العشرينات، وعُمري مهدّد بالهدر في قرارات لم أخترها، لفرط ما بكيت حينذاك أجدبت روحي. كنتُ في نداوة العُمر وعُمري يسير نحو مآلات مفزعة لم أخترها، كنتُ أقاومها بكل قوّتي حتى فقدتُ قواي… أتذكّر منها ليلة كنتُ أجلس فيها تحت سماء يغطيها السواد ويجثم على روحي، وأرقب نجمة بعيدة وأحلم لو كان بوسعي أن أختفي من العالم حينها وأعود بعد سنوات وقد تغيّر كل شيء، كنت لحظتها أفكّر في (ريميديوس) الجميلة، البنت التي كانت متعالية ببراءتها على قبح الأرض في رواية (مائة عام من العزلة)، والتي خرجت ذات يوم لتجمع الملاءات من على حبل الغسيل، ثمّ صعدت إلى السماء فجأة، طارت، حلّقت أمام مرأى أهالي القرية الذي كانوا يرقبونها مشدوهين، و لم تعد أبدًا.. كنت مفتونة بقدرتها على الاختفاء. أنظر إلى الأعلى وأتساءل هل ستأتي قوة خفية تحملني إلى السماء؟ فأظل أصعد وأصعد وأصغر في عين الأرض وتصغر الأرض في عيني، ولا يبقى مني إلا صورة طرف ثوبي وأنا أسلك طريقي نحو التلاشي، نحو الخلاص…
أتذكر تلك الليالي كلما كتب الحزن صفحة جديدة في سجل عُمري الذي تسارع حتى زاد عن الثلاثين… أتذكّر أن تلك الليالي انقضت، وأحزاني غادرت، والمصير المروّع أخطأني… وصرت أتذكّر ذاك الألم كما لو أنّه أصاب أحدًا غيري… يحدث التناصّ بين الليالي الحزينة في حاضري حين يستدعي حزني الحالي تلك الليالي التي خطّ الحزن على وجهها ذاك السواد الكثيف… وأقول: لو أنني عرفتُ في عشريناتي أن عُمري في الثلاثينات سيكون بهذا الشكل لما بكيت أيامها ليلة واحدة. فأدرك في ليالي حُزني القادمة سيحدث معي الأمر نفسه أيضا، سيخطّ الألم في عُمري القادم بمداده الأسود ظلمات جديدة، وسألتفت إلى الماضي الذي هو حاضري الآن، وسأقول: لو كنتُ أعلم أن تلك الليالي ستنقضي وأنّي سأصل إلى هُنا، لما بكيت ليلةً واحدة.
في كتاب (أتغيّر) تقول الممثلة ليف أولمن عن ذكرى وحشتها وحزنها حين تم رفضها في تجربة أداء تقدّمت إليها في الثامنة عشر من عُمرها “أشهرٌ خِلْتُ أنّها لن تنتهي، حيث لا هدف ولا معنى، وهذا الكلام دوّنته بتأنٍ في مفكرة زرقاء اللون لا أزال أحتفظ بها، خطّتها يدّ فتاة صغيرة عاشت قبل زمنٍ بعيد. إنّها آلامٌ لم أَعُد أذكرها، أفراحٌ لم تعدْ تُشكّلُ جزءًا منّي” وهذا ما أقوله في نفسي كلما عشتُ ليلة تتناصّ مع ليالي الحزن الذي انقضى، أستدعي ليل ليف أولمن ويتعالق معه ليلي، وأدرك أن كل هذا سينقضي، وسيصبح “آلام لم أعد أذكرها” حتى وإن كانت قد شكّلت جزءًا منّي، شكّلت البنت التي أنا عليها الآن… أسوأ الليالي هي التي أخرجت أجمل ما فيّ، وهذه المقايضة العادلة علمتني الغفران.