
شاركت في التحدّي المنشور من حساب مرجع المدونات العربية على تويتر. التحدّي يطلب كتابة تغريدات تأملية لمدة عشرة أيام متتالية. وجدتها فرصة لي لأروّض مزاجي على الانتظام في الكتابة، وصلت حتّى اليوم الرابع وتوقفت للأسف. كنت أرغب في كتابة عشر مدونات تأملية مستغرقة قي تأمل الليالي باستدعاء ذكريات من عتمة ليل الماضي، وباستحضار أعمال فنية وأدبية كان الليل موضوعًا لها… في الليلة الخامسة انتهى موعد استلام المشاركة فيما كنت أقود سيارتي لمدة ٤٠ دقيقة استغرقها مشواري إلى طوارئ المستشفى والعودة منه بعد أن انتكست أختي من مرضها المزمن… كنتُ أفكّر في طريق الذهاب والإياب في أن تكون تدوينة اليوم الخامس عن ليل المرضى والمتعبين، أعبر الليل وأفكّر في ليل السيّاب الذي ارتدى فيه قناع أيوب ليقاوم الألم وهو يتغنى بعذابه:
“شهور طوال وهذي الجـِـــراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمُّ إلى الصدرِ باقاتــها
هداياكَ في خافقي لاتَغيــب
هداياكَ مقبولة، هاتها”
في امتداد الطريق نحو المستشفى كنت أتخيّل السياب مسجى على سرير المستشفى يتأمل الليل من شباك غرفته، يتأوّه ويفكر في الصباح الذي سيعقب الليل، يتأوّه ويسمع تأوّهات الأجساد المتعبة حوله، ويحاول أن يغيّر مسار ليل الألم نحو وجهات الأمل، ويقول:
“جميلٌ هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء
لك الحمد يا رامياً بالقدر
وياكاتبـا ً بعد ذاكَ الشفـــاء”
ومن ليل السيّاب تقتادني طرقات الليل نحو الليالي التي قضاها أمل دنقل في الغرفة رقم ثمانية الكائنة في مستشفى الأورام بمصر، الغرفة التي عاش فيها آخر سنتين من عمره، وأنتج منها آخر دواوينه… في ومض أضواء السيارات التي تسير أمامي وخلفي وحولي، في ومض لوحات النيون التي تستيقظ في عتمة الليل على واجهات المحلات التجارية، في ومض الأفكار الصاخبة في ذهني… كنت أفكّر في أمل دنقل المريض وومضات رؤيته فيما يغالب الألم، ويتآكل زمنه المتبقي، يفترسه الإعياء، يغيب ويستفيق، وبين إغماءة وإفاقة يلمح الزهور التي جلبها زوّاره، فلا يرى منها إلا عُمرها القصير كعمره، وذبولها الوشيك كذبوله الحتميّ:
“وسلالٌ منَ الورِد,
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقه
***
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ – دهشةً –
َلحظةَ القَطْف
َلحظةَ القَصْف
لحظة إعدامها في الخميلهْ!
تَتَحدثُ لي..
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ
تَتَحدثُ لي..
كيف جاءتْ إليّ..
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)
كي تَتَمني ليَ العُمرَ!
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!
***
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ – بالكادِ – ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ – راضيهْ…
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ”
وكلما توغّلت سيارتي في عتمة الليل، أحاول أن أجرّ الأمل معي، أن أجعله ضمن مسارات تيهي، أن أفكّر في شفاء أختي التي أسمع أنينها، وأعجز عن سلبها إياه… يبرق الأمل، ويحضر محمود درويش ويخطّ جداريته على وجه الليل، درويش الذي اشتكى الألم باستدعاء الأمل قائلا: ” تعبتُ من أملي العضال “
…
لم يكن القمر بدرًا في ذلك الليل، لكنه كان في طريقة للاكتمال وحين أنظر إليه وأنا أسير في طريق إيابي من المستشفى وحدي مع حشد أفكاري، أراه يسير نحو تمامه، فأستدعي حسين البرغوثي الذي كان يسير نحو تمام عمره، نحو موته الوشيك في ليل بلاده، في (رام الله) حيث اختار أن تكون نهايته في مراتع أول العمر، يقول: “كان القمر بدرًا، والهواء صقيعيًا في جنائن اللوز حول بيتنا، وأنا أتجوّل بين الظلام، وأتأمل في هذه (النهاية). أرجعني إلى هُنا مرضي بالسرطان، ووجع في أسفل الظهر مستمر إلى حدّ الملل، والملل كما قال عنه كركيغارد: (مرعب إلى حدّ لا يمكنني عنده أن أصفه إلا بالقول بأنه مرعب إلى درجة مملة) والمرض عندي وجهة نظر في الحياة”
…
بلغت تمام طريق الإياب، نزلت في ذاك الليل لأعود إلى سريري ثقيلة بأوجاع المتعبين، ظلام لياليهم ترك في ليلي عتمات مضاعفة، وحين آويت إلى فراشي جاء ليل المتنبي الذي توسّدت فيه الحمى عظامه، وكالمتنبي بذلت لعتمة الليل المطارف والحشايا، لكنها عافتها وباتت في روحي…