تحدّي التأمل، تحدّي التحمّل

شاركت في التحدّي المنشور من حساب مرجع المدونات العربية على تويتر. التحدّي يطلب كتابة تغريدات تأملية لمدة عشرة أيام متتالية. وجدتها فرصة لي لأروّض مزاجي على الانتظام في الكتابة، وصلت حتّى اليوم الرابع وتوقفت للأسف. كنت أرغب في كتابة عشر مدونات تأملية مستغرقة قي تأمل الليالي باستدعاء ذكريات من عتمة ليل الماضي، وباستحضار أعمال فنية وأدبية كان الليل موضوعًا لها… في الليلة الخامسة انتهى موعد استلام المشاركة فيما كنت أقود سيارتي لمدة ٤٠ دقيقة استغرقها مشواري إلى طوارئ المستشفى والعودة منه بعد أن انتكست أختي من مرضها المزمن… كنتُ أفكّر في طريق الذهاب والإياب في أن تكون تدوينة اليوم الخامس عن ليل المرضى والمتعبين، أعبر الليل وأفكّر في ليل السيّاب الذي ارتدى فيه قناع أيوب ليقاوم الألم وهو يتغنى بعذابه:
“شهور طوال وهذي الجـِـــراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صــــــاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمُّ إلى الصدرِ باقاتــها
هداياكَ في خافقي لاتَغيــب
هداياكَ مقبولة، هاتها”

في امتداد الطريق نحو المستشفى كنت أتخيّل السياب مسجى على سرير المستشفى يتأمل الليل من شباك غرفته، يتأوّه ويفكر في الصباح الذي سيعقب الليل، يتأوّه ويسمع تأوّهات الأجساد المتعبة حوله، ويحاول أن يغيّر مسار ليل الألم نحو وجهات الأمل، ويقول:
“جميلٌ هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء
لك الحمد يا رامياً بالقدر
وياكاتبـا ً بعد ذاكَ الشفـــاء”

ومن ليل السيّاب تقتادني طرقات الليل نحو الليالي التي قضاها أمل دنقل في الغرفة رقم ثمانية الكائنة في مستشفى الأورام بمصر، الغرفة التي عاش فيها آخر سنتين من عمره، وأنتج منها آخر دواوينه… في ومض أضواء السيارات التي تسير أمامي وخلفي وحولي، في ومض لوحات النيون التي تستيقظ في عتمة الليل على واجهات المحلات التجارية، في ومض الأفكار الصاخبة في ذهني… كنت أفكّر في أمل دنقل المريض وومضات رؤيته فيما يغالب الألم، ويتآكل زمنه المتبقي، يفترسه الإعياء، يغيب ويستفيق، وبين إغماءة وإفاقة يلمح الزهور التي جلبها زوّاره، فلا يرى منها إلا عُمرها القصير كعمره، وذبولها الوشيك كذبوله الحتميّ:
“وسلالٌ منَ الورِد,
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقه
***
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ – دهشةً –
َلحظةَ القَطْف
َلحظةَ القَصْف
لحظة إعدامها في الخميلهْ!
تَتَحدثُ لي..
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ
تَتَحدثُ لي..
كيف جاءتْ إليّ..
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)
كي تَتَمني ليَ العُمرَ!
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!
***
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ – بالكادِ – ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ – راضيهْ…
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ”


وكلما توغّلت سيارتي في عتمة الليل، أحاول أن أجرّ الأمل معي، أن أجعله ضمن مسارات تيهي، أن أفكّر في شفاء أختي التي أسمع أنينها، وأعجز عن سلبها إياه… يبرق الأمل، ويحضر محمود درويش ويخطّ جداريته على وجه الليل، درويش الذي اشتكى الألم باستدعاء الأمل قائلا: ” تعبتُ من أملي العضال “


لم يكن القمر بدرًا في ذلك الليل، لكنه كان في طريقة للاكتمال وحين أنظر إليه وأنا أسير في طريق إيابي من المستشفى وحدي مع حشد أفكاري، أراه يسير نحو تمامه، فأستدعي حسين البرغوثي الذي كان يسير نحو تمام عمره، نحو موته الوشيك في ليل بلاده، في (رام الله) حيث اختار أن تكون نهايته في مراتع أول العمر، يقول: “كان القمر بدرًا، والهواء صقيعيًا في جنائن اللوز حول بيتنا، وأنا أتجوّل بين الظلام، وأتأمل في هذه (النهاية). أرجعني إلى هُنا مرضي بالسرطان، ووجع في أسفل الظهر مستمر إلى حدّ الملل، والملل كما قال عنه كركيغارد: (مرعب إلى حدّ لا يمكنني عنده أن أصفه إلا بالقول بأنه مرعب إلى درجة مملة) والمرض عندي وجهة نظر في الحياة”

بلغت تمام طريق الإياب، نزلت في ذاك الليل لأعود إلى سريري ثقيلة بأوجاع المتعبين، ظلام لياليهم ترك في ليلي عتمات مضاعفة، وحين آويت إلى فراشي جاء ليل المتنبي الذي توسّدت فيه الحمى عظامه، وكالمتنبي بذلت لعتمة الليل المطارف والحشايا، لكنها عافتها وباتت في روحي…

تناصّ الليالي #تحدّي_التأمل

أستعير مصطلح (التناصّ) من حقل النقد الأدبي، وآخذه إلى سياقات الزمن. يعرّف النقاد التناصّ تعريفات كثيرة ملخصها يقول إن التناص هو حضور نصّ سابق في نص لاحق، أي العلاقات المتبادلة بين نصّ ونصوص أخرى… فليس للنصّ الأدبيّ وجود مستقلّ، كلّ نصّ له مرجعيات يعود إليها، وكل كاتب هو حصيلة قراءاته… وما دامت اللغة مشتركة، ففي النصوص مشتركات… وكذلك الزمن، حياتنا نصّ طويل يكتبه الزمن، وما دام الزمن حصيلة وتراكم، فهو أيضا يقوم على مبدأ التعالق، يستند المستقبل على الماضي، يتعالق الحاضر مع ما فات، اليوم يُسهم في تدوين الغد، والغد سيراجع ويحرّر ما يكتبه فينا اليوم.
وما دامت هذه التأملات تسترجع الليالي، فإني أرى ليلتي هذه تُصاغ من مرجعيات الليالي التي مضت، وحين أفكّر في تناصّ الليالي فإن أول ما يخطر في ذهني هو الليالي الحزينة، الليالي الطويلة التي ظننتها لن تنقضي… ليالٍ تتناصّ مع ليل امرئ القيس الطويل الذي ناداه قبل أكثر من ألف عام ونصف قرن (ألا أنجلِ) الليل الذي جثم على صدره وكان ثقيلًا منيعًا على المغادرة كما لو كان مشدودًا إلى الجبال بأوثق الحبال… ليالٍ لم أستطع النوم فيها من شدّة الألم الجاثم على قلبي، ليالٍ شاسعة بفعل تحالف ظلمتها مع ظلمة حُزني وخوفي… ليالٍ أتذكّر بعضها الآن ولا أرغب في سرد أحداثها، منها ليالٍ عشتها قبل أكثر من عقد، حين كنتُ في غضاضة عُمر العشرينات، وعُمري مهدّد بالهدر في قرارات لم أخترها، لفرط ما بكيت حينذاك أجدبت روحي. كنتُ في نداوة العُمر وعُمري يسير نحو مآلات مفزعة لم أخترها، كنتُ أقاومها بكل قوّتي حتى فقدتُ قواي… أتذكّر منها ليلة كنتُ أجلس فيها تحت سماء يغطيها السواد ويجثم على روحي، وأرقب نجمة بعيدة وأحلم لو كان بوسعي أن أختفي من العالم حينها وأعود بعد سنوات وقد تغيّر كل شيء، كنت لحظتها أفكّر في (ريميديوس) الجميلة، البنت التي كانت متعالية ببراءتها على قبح الأرض في رواية (مائة عام من العزلة)، والتي خرجت ذات يوم لتجمع الملاءات من على حبل الغسيل، ثمّ صعدت إلى السماء فجأة، طارت، حلّقت أمام مرأى أهالي القرية الذي كانوا يرقبونها مشدوهين، و لم تعد أبدًا.. كنت مفتونة بقدرتها على الاختفاء. أنظر إلى الأعلى وأتساءل هل ستأتي قوة خفية تحملني إلى السماء؟ فأظل أصعد وأصعد وأصغر في عين الأرض وتصغر الأرض في عيني، ولا يبقى مني إلا صورة طرف ثوبي وأنا أسلك طريقي نحو التلاشي، نحو الخلاص…
أتذكر تلك الليالي كلما كتب الحزن صفحة جديدة في سجل عُمري الذي تسارع حتى زاد عن الثلاثين… أتذكّر أن تلك الليالي انقضت، وأحزاني غادرت، والمصير المروّع أخطأني… وصرت أتذكّر ذاك الألم كما لو أنّه أصاب أحدًا غيري… يحدث التناصّ بين الليالي الحزينة في حاضري حين يستدعي حزني الحالي تلك الليالي التي خطّ الحزن على وجهها ذاك السواد الكثيف… وأقول: لو أنني عرفتُ في عشريناتي أن عُمري في الثلاثينات سيكون بهذا الشكل لما بكيت أيامها ليلة واحدة. فأدرك في ليالي حُزني القادمة سيحدث معي الأمر نفسه أيضا، سيخطّ الألم في عُمري القادم بمداده الأسود ظلمات جديدة، وسألتفت إلى الماضي الذي هو حاضري الآن، وسأقول: لو كنتُ أعلم أن تلك الليالي ستنقضي وأنّي سأصل إلى هُنا، لما بكيت ليلةً واحدة.
في كتاب (أتغيّر) تقول الممثلة ليف أولمن عن ذكرى وحشتها وحزنها حين تم رفضها في تجربة أداء تقدّمت إليها في الثامنة عشر من عُمرها “أشهرٌ خِلْتُ أنّها لن تنتهي، حيث لا هدف ولا معنى، وهذا الكلام دوّنته بتأنٍ في مفكرة زرقاء اللون لا أزال أحتفظ بها، خطّتها يدّ فتاة صغيرة عاشت قبل زمنٍ بعيد. إنّها آلامٌ لم أَعُد أذكرها، أفراحٌ لم تعدْ تُشكّلُ جزءًا منّي” وهذا ما أقوله في نفسي كلما عشتُ ليلة تتناصّ مع ليالي الحزن الذي انقضى، أستدعي ليل ليف أولمن ويتعالق معه ليلي، وأدرك أن كل هذا سينقضي، وسيصبح “آلام لم أعد أذكرها” حتى وإن كانت قد شكّلت جزءًا منّي، شكّلت البنت التي أنا عليها الآن… أسوأ الليالي هي التي أخرجت أجمل ما فيّ، وهذه المقايضة العادلة علمتني الغفران.

ليل يستوطنه الحنين #تحدي_التأمل

بقدر ما ترهقني أحلامي وبقدر ما أشتكي من طولها وزحامها.. أفتقدها حين يُخيّل لي أنها غادرتني أو حين أستيقظ ولا أتذكرها جيدًا وبالكاد ألتقط منها مشهدًا أو مشهدين… لا أحب أن يكون نومي كتلة من السواد تأتي وتنجلي.
أحلامي حياة أخرى تتأخر فيها الوجوه التي غادرت حاضري وتأبى أن تغادر ذاكري. في أحلامي تستعيد الأيام الصاخبة صخبها، والأيام الجميلة جمالها. مثلًا في أكد مناماتي عاد جدي -رحمه الله-  ليحشو بندقيته بالبارود ليلة العيد كي يطلق رصاصة كان يطلقها سنويًا بعد كل إعلان عن رؤية هلال العيد. أختي العشرينية تزور أحلامي وهي طفلة لا تتجاوز الخامسة وأقابلها بعمري الحالي، في حلم لا أنساه خرج أبي و عاد شابًا في مثل عمري وربما أصغر، وجلس يحكي وأمي تضحك و وعدني باصطحابي إلى أماكن طالما تردد عليها في شبابه ومع أن الثلج كان يسقط في ذلك الحلم وكان الناس يلوذون بدفء بيوتهم إلا أني وعدت أبي بالذهاب معه مهما كلّف الأمر… كم أحب هذا التلاعب بالزمن في أحلامي، أحب عودة أبي إلى شبابه وأختي إلى طفولتها وأنا في عُمري الحالي أعيش معهم أعمارهم السابقة مرتين…  يعجبني في أحلامي أنها تهبني حياة لم أعشها وتهديني ذكريات لحظات لم أقبض عليها.
أما عن مسرح أحلامي الأكثر حضورًا فهو بيت طفولتي… الشائع أن نقول (بيت الأحلام) حين نتحدث عن بيت مستقبلي، أمّا أنا حين أقول (بيت الأحلام) فأنا أقصد بيتًا من الماضي تقادم عليه الزمن، وتآكل بنيانه لكنّه ظلّ عامرًا في أحلامي.
فما زلت أحلم بالبيت الأول الساكن في قرية هادئة، والمصطخب بالوجوه والحكايات.
كان البيت صغيرًا صغيرًا جدًا في واقعه، لكنه اتسع بصورة لا نهائية بعد أن غادرته فصار يتمدّد باتساع كل الضجيج الذي تحتشد به مناماتي، كان هذا البيت هو بدء إدراكي للأمكنة، ومُنتهى شعوري بالأمان والحُرية. بيت مكوّن من غرفة وحيدة وصالة وفناء أوسع من الوحشة ولذا فقد استعصى عليها، وصار مطواعًا للأنس، حاضنًا للقاءات الأحبة…
كان للبيت جدار مشترك مع بيت خالي وبيت جدتي الذي تتوسط ساحته الغرفة التي شهدت ميلادي وصارت فيما بعد غرفة لخالتي فيها خزانة خشبية صغيرة ألصقتْ على بابها صور فناني التسعينات، وفي داخل الخزانة روايات كثيرة ومجلات فنية ورسائل عذبة وأفلام فيديو، هذه الغرفة شهدت فيما بعد سهراتي الطويلة مع خالتي وحكاياتي الكثيرة وأسرارنا الأولى، في تلك الغرفة قرأتُ أجاتا كريستي لأول مرة وتعقبت مجرميها، عرفتُ المنفلوطي وانتشيتُ من سحر لغته، طاردت مع جين اير وجه روشستر، جمّدتني البرودة على مرتفعات وذرنج…
في بعض الليالي كان يصدر من سقف الغرفة صوت غريب يتبعه تناثر تراب من جوانب السقف نحو الأرض، لا أعرف ربما كان السقف ينزل ببطء وربما كان يهدد بانهيار وشيك، لكن الذي أعرفه أننا لم نخشَ من هذا الإنهيار أبدًا، بدت تلك الغرفة في قلبي دائمًا وكأنها غير مسقوفة أصلًا لفرط ماشعرت داخلها بتحرّر روحي…

ذاك البيت الصغير الذي هجرناه بشكل متقطع منذ طفولتي ثم هجرناه بشكل أبدي عندما بلغت السادسة عشر اتسع ليصير كل شيء، كنت أراه في أحلامي وقد صار مقرًا لدراستي، ثمّ مقرًا لعملي فيما بعد، كان مسرحًا لكل المنامات، كان المكان الذي يحلُّ بديلًا في منامي لكل الأمكنة. وحين زرته قبل ست سنوات في تمام عامي الثلاثين أفزعني حجمه الصغير وتنامي الشوك في فنائه وسقوط سقف المطبخ وظلامه المريع وساحته الأصغر من صورتها في ذاكرتي، فخفت أن يغادر أحلامي، كان قد دخل ضمن حسابات ميراث جديد، وماعاد لنا… ومازال مهددًا بالهدم، لم أخشَ عليه من شيء إلا من التهدّم في عقلي اللاواعي، أفزعتني فكرة وجود مكان آخر في مناماتي سواه، وتحقّق فزعي مدة من الوقت، بدأت أحلم بأمكنة أخرى… لكنه عاد بعد ذلك، حلمتُ مرة بمطرٍ غزير ينهمر فوقه ورائحة الطين تتسيد الحلم، استيقظت أستسقي له بقدر ما سقى عُمري وذاكرتي وأحلامي بالألفة والحنين. حلمتُ مرة أني أسير فيه على غير هدى لأفتش عن حذاء أبي وأخبر أختي أني متجهة إلى خليج العقبة، اتسعت الخارطة إذن… حلمتُ أيضًا أن فيه حجرة مظلمة تتكدس فيها أسلحة حروب العالم فأغلقتها مع أختي وهربنا وكأننا جرّدنا العالم من القتل. حلمتُ مرة بلاجئين من فلسطين يستوطنون عراء الأرض المجاورة للمنزل وفوقهم طائرات تقصفهم بالجمر… وهو ذات البيت الذي حلمتُ بأبي يخرج منه ويعود إليه شابًا في نفس عُمري، ويجلس بيننا يحكي حكايات شبابه وأنا أتأمله بفرح وحنين وشعور يصعب على الوصف مبتهجة من أننا صرنا في عمرٍ واحد وأني أدركتُ شبابه هكذا بكل بساطة.
لم يعد حضور البيت طبيعيًا في أحلامي وبالكثافة السابقة حين لم يكن في الحلم مكانٌ لسواه، صرت أترصّد الحلم الذي يأتي به وأستيقظ منه بنشوة وطمأنينة… لكنّي منذ شهور لم أعد أحلم به، وانتقلت أحلامي للبيت الثاني، بيت أبي، صرتُ أرى بيوت القرية مُغطاه بالثلج أحيانًا، وأحيانًا يغمرها المطر… (البرد) هو الموضوع المشترك بين كل الأحلام التي تحتضنها قرية أبي. ولا أهتم بهذا، ما يهمني فعلًا هو أن لا تتمرد مناماتي على البيتين، بيت أمي وبيت أبي، وأن لا تجد لها مسرحًا خارج حدود تلك القرى التي تسكن رائحتها دمي.
في كتاب (جماليات المكان) يشرح غاستون باشلار الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما خصوصا البيت فهو رمز الألفة المحمية “البيت أكثر من منظر طبيعي، هو ظاهرة نفسية، حتى لو رأينا صورا خارجية له؛ فهو مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم… باشلار يرى أننا منذ وجدنا في العالم كان الوجود هنيئا في “بيت الطفولة”، كان الإنسان منخرطا في الهناءة، حين كانت الهناءة مرتبطة بالوجود؛ والهناءة هنا تشمل أوقات ضجرنا وبكائنا التي مارسناها في ركن منعزل من البيت؛ إن كل الصور الأليفة المرتبطة بالبيت في خيالنا وأحلامنا يربطها باشلار ببيت الطفولة، فهو جذر المكان الذي تشكل فيه خيالنا ومارسنا فيه أحلام اليقظة، فالحياة كما يرى باشلار تبدأ بداية جيدة، تبدأ مسيجة، محمية في صدر البيت”*
وعودُا على تأملات الليل؛ أسائل ذاكرتي عن الليالي التي لا أنساها من ذلك البيت، فتستدعي ليالي رمضان والأعياد. أجمل (رمضانات) عشتها كانت في أواخر التسعينات. كان لرمضان أيامها رائحة تميّزه، كنت أتحرّاه إلى درجة أنّي أُحِيل الصفحة الأخيرة من كتبي الدراسية إلى تقويم يَدويّ أدوّن فيه تواريخ الأيام التي تفصلنا عن رمضان وأشطبها يومًا بيوم كما يفعل السُجناء في انتظار لحظة الفرج. أهم أسباب حُبّي لرمضان أيامها (الإجازة). ففي بدايته ينتهي الفصل الدراسي الأول وتبدأ إجازة الربيع. ويُصادف رمضان فصل الشتاء ومواسم المطر، فنقضيه في هذا البيت بفنائه المتسع، وغُرفته الضيّقة التي تُظللنا من شمس النهار، وما أن تغرب الشمس حتى تُخرِج جدتي مراتب السُرر الداخلية وتفرشها على السُرر الحديدية الخارجية المتجاورة في الفناء، وتُدير التلفاز إلى (سدّة) الباب وتوجه شاشته بإتجاه ساحة البيت فنقضي ليلنا في هذه المساحة المفتوحة المسقوفة بالسماء والنجوم… أو كما يقول أهل قريتي (نرى ربّي وربّي يرانا). أتذكر أيامها أن برودة الجو كانت تشتد إلى حدّ خروج (البخار) من أفواهنا، والسماء تُمطر حتى تسيل السقوف الخشبية لبيوتنا الشعبيّة… ورغم هذا لا نتضجر من المطر.
أمّا ليالي الأعياد، يحضر في قلبي من ذكراها الندية شعوري في ليلتين متتاليتين؛ الليلة الأولى هي ليلة العيد التي أظلّ مستيقظة فيها أختبئ في فراشي وألتحف اللهفة وأتحرّى صوت أذان الفجر بقلب يتوقّد بالفرح والترقّب.
والليلة الثانية هي الليلة التي تعقب أول يوم في العيد،حين آوي إلى فراشي بشعور حزين، وبقلب ثقيل، لا لشيء إلا لأن العيد (انتهى خلاص) انتهى وأشعر بتأنيب خشية أن أكون لم أفرح كما ينبغي، فقد كان قلبي الغضّ آنذاك يشعر أن الفرح واجب ينبغي أن أوفيه حقّه… وأي شعور أعظم من استشعار (واجب الأفراح)؟

ليلة بيضاء #تحدّي_التأمل

نَفَسي قصير، كاد أن ينقطع اليوم فأستسلم في بداية التحدّي… ثمّة أفكار كثيرة في رأسي، لكني أكسل من تدوينها. وهذا تضاد هائل، في رأسي صخب لا يهدأ وفي أيامي صمت مستمر وحاضر بثبات. وأشعر دائمًا أنني أعيش داخل نفسي أكثر مما أعيش خارجها، لذا أعاني من قلة الانتباه للمحيط الخارجي بشكل ملحوظ، لا تلفتني تفاصيل الأمكنة، ولا أحفظ الطُرق، وأنسى، أنسى بشكل لافت ومزعج، أنسى الأشياء اليومية البسيطة، طريقي، مكان أشيائي، الهدف الذي خرجت لأجله، الغرض الذي عدتُ لأخذه. أنسى مع إن من لا يعايشني بشكل يومي سأبدو له بكل تأكيد كما لو أنني امرأة لا تنسى أبدًا… فأنا أتذكّر الجمل التي تُقال بالألفاظ ذاتها، مشاعري تسبقني إلى التذكّر أحيانًا فأشعر ببهجة غامضة أو انقباضة قلب مريعة أو أي شعور بلا مقدمات وحين أسأل نفسي ما الذي استدعى هذا الشعور تكون أحيانًا كلمة قالها بطل في مسلسل أتابعه ذكرتني بموقف يتوارى في غياهب الزمن لكن شعوري به يستيقظ بشكل مفزع، أحيانًا رائحة عطر، أو خبز، أو حتى غبار… تستدعي في داخلي شعور تعب، أو غضب، أوخفة، أو حنين… يسبق الشعور الذكرى، وتبدو المواقف مثل متعلقاتي الشخصية التي أنساها في كل مكان وأبحث عنها لأستعيدها… لكن المشاعر هي التي تجعلني وتجعل الآخرين يعتقدون أنني لا أنسى…
وحديث النسيان والذاكرة في يوم كهذا يعيدني إلى ليلة قديمة، قديمة جدًا، قبل ما يقارب ربع قرن، لا أعرف كيف استدعيت هذه الليلة اليوم، ربما الرابط يكمن في أن هذه التأملات تستهدف الليالي، وتوافقت مع صبيحة صخب العالم للاحتفاء بعيد الأم.
أتذكّر ليلة قديمة جدًا لم تكن ليلة عيد الأمّ بالطبع، فحينها لم يكن الإنترنت قد دخل البلاد كي تزيد روزنامة مناسباتنا… كانت الليلة السابقة ليوم عرفة. ليلة ككل الليالي التي تظلّ أمي تحدثنا فيها في عتمة الليل حتى ننام. عرفت في تلك الليلة أننا نستقبل غدا يومًا غير عادي لأن أمي قالت: إن غدًا هو أصعب يوم على الشيطان. فالناس في هذا اليوم بين حاج لبيت الله، وبين متطوّع بالصيام أو متطوّع لخدمة الحجيج أو خدمة الصائمين.. في كل الأحوال هذا أتعس أيام الشيطان.. لم تأمرني أمي بالصيام، لكن فكرة الشيطان التعيس بدت في ذهني فكرة عظيمة، وخفت، خفت خوفًا حقيقيًا في أن يجد نفسه منبوذًا من الكل، وأتسبب أنا في سعادته بأي فعل سيئ، كالشتم والغضب والعناد أو أي فعل من أفعالي اليومية والمعتادة. أتذكّر اليوم التالي لتلك الليلة، لم أصم، خرجنا للعب بالدراجات، كنت في حالة تسامٍ تفوق عُمري، حريصة جدًا أن لا أغضب من أحد أو يغضب مني أحد، صبرت على أختي الصغيرة في ذاك اليوم كما لم أصبر من قبل، وكلما شعرت ببوادر غضب أو اشتباك أتلافى الموقف خشية أن أكون الوحيدة بين ملايين من البشر التي سيبتسم الشيطان بسبب أفعالها في يوم بؤسه العظيم.

أبتسم الآن من هذه الذكرى، أستدعي مشاعر التسامي تلك كلما غمر البياض جبال مكة، وصعد الحجيج جبل الرحمة ملبين متضرعين.
في كل يوم عرفة أتذكر الشيطان التعيس الذي تصورته آنذاك، أظن أنه ضحك كثيرًا بسبب أفعالي فيما بعد، لكني أدرك أني ما كنت ملاذه الوحيد كما تصوّرت من قبل… فالعمر الذي يزداد ينهب رصيدنا من اليقين والسذاجة، أدركت أن الشياطين في كل مكان… لكني في كل عام، في ليلة عرفة، ألبس بياض الطفلة التي كنتها ويندى قلبي لهذه الذكرى وأحاول جاهدة أن لا يبتسم الشيطان بسببي ولو ليوم واحد فقط… لا لأني أخشى أن أكون ملاذه الوحيد يومها، لكن لأني أريد أن ألوذ بنفسي، بالبياض القديم، بالسذاجة العذبة، باليقين المطمئن… وبابتسامة أمي.

ليل قديم، يرمّمه الحلم #تحدي_التأمل

فيما كنتُ أفكّر في موضوع أتأمل فيه، وأترك لأفكاري التماهي معه، ولذكرياتي التداعي لأجله والتنادي استجابة لحضوره. كنتُ أقرأ أحد مقالات كيليطو من كتابه (في جوٍّ من الندم الفكري) يتحدث فيه عن ألف ليلة وليلة، وكيف اختزن عقله فكرة أن أبطال هذه الحكاية لا ينامون الليل، تسهرهم الحكاية، حتى أسهرت قارئة أجنبية عيني كيليطو حين أخبرته أن ترجمة أنطوان غالان لليالي الألف تتضمن إشارة متكرّرة إلى نوم الأبطال، متمثلة في سؤال دنيازاد لأختها شهرزاد: إن كنتِ لم تنامي…
وهذه ليست إشارة قاطعة إلى نوم شهرزاد، فقد تكون نائمة أو لم تنم بعد لحظة سؤال أختها… وإن كانت تنام وأيقظتها دنيازاد فمن يجرؤ على إيقاظ شهريار من نومه ليُنصت إلى حكاية، فما هدف هذه الحكايات غير إخماد بطشه وهدهدة شروره ودفعه إلى النوم بعد أن ظل طيلة الليل يطارد الحكاية من فم شهرزاد حتى يدركهما الصباح…
لا يعنيني إن نام شهريار وشهرزاد ودنيازاد، أم لم يناموا… فقد أيقظ ذكرهم الفكرة في رأسي، فكرة التأمل في النوم والأرق، في يقظة الطفل الذي كنّاه، ونومنا الأبدي الذي يقتادنا العُمر إليه، أو ربما يقظتنا المرتقبة بعد عيش شبيه بغفوة قصيرة اكتظت بالأحلام… فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، و”إنما العيش مثل السهاد”
نقلني مقال كيليطو إلى معاناة الطفلة التي كنتها لأجل أن تحظى بحرية السهر، وبمعاناة المرأة التي صرتها من سجن الأرق.
أربط بين ليل شهرزاد ودنيازاد وشهريار الذي يقضونه في السهر ومسامرة الحكاية، مع صباحات عُمرنا، زمن الطفولة، حين كنا نرجو في كل ليلة أن لا يجبرنا الأهل على النوم، نفكّر في السهر كمغامرة لذيذة بلذة النوم الذي صرنا ننشده اليوم… وأربط بين ذاك الحلم بالسهر وبين سحر الحكاية في ألف ليلة وليلة… في ليالينا تلك كنّا أطفال تربينا الدهشة، فلا نريد أن نختم النهار، ولا أن نهدر الليل في نوم يفوتنا خلاله الوقت، فنخسر لحظات من اللعب، والإنصات لحكايا الكبار، وابتداع الحكايات بيننا نحن الصغار.
اخترعت الجدّات الحكاية لتهدأة مخاوفنا من الظلام، أو لتهدئة شغبنا كي يجد الكبار وقتًا يحظون فيه بهدأة النوم… تماما كما فعلت جدّتهم شهرزاد لتنقذ حياتها، وحياة باقي النساء.
أتأمل ذاك الحلم القديم بالسهر حتى ساعة متأخرة من الليل، دون أن تسجننا الأوامر في الفِراش… فأتذكّر قصة لبورخيس بعنوان (الآخر).
في هذه القصّة يلتقي بورخيس الكهل، ببورخيس الشاب… لقاء عُمرين في لحظة واحدة. يقول بورخيس الشاب لبورخيس الكهل: “الغريب هو أننا نتشابه، بيد أنك أكبر سنا مني وشعرك رمادي” لا يصدّق الشاب أن هذا الكهل الماثل أمامه هو نفسه القادمة من المستقبل، يحاول الكهل إثبات الأمر للشاب فيخبره بتفاصيل تخصّه، يصف بعض ممتلكات منزله، وترجمات الكتب التي تتضمنها مكتبته… لكن الشاب لا يصدّق، يظن أن الأمر حُلمًا، وطالما هو الحالم فمن الطبيعي أن يلتقي شخصًا في منامه يعرف ما يعرف هو، فالحلم يدور في رأسه…
لكن الكهل يقول:
إذا كانت هذه الصبيحة وهذا اللقاء حلمين، فكل منا لا بد أن يعتقد أن الحالم هو. ربما توقفنا عن الحلم، وربما لم نفعل… وبين هذا وذاك نحن مرغمان على قبول الحلم، مثلما قبلنا الكون، وقبلنا أن نكون مولودين، وقبلنا أن نرى بالأعين، ونتنفس·
يسأل بورخيس الشاب بقلق:
-وإذا تواصل الحلم؟
ويتابع السارد على لسان بورخيس الكهل: “ولتهدئته، وتهدئة نفسي، ادعيت السكينة. كنت خاوي الوفاض منه في الواقع. قلت له: ها إن حلمي قد دام سبعين سنة. وعندما نتذكر، في نهاية المطاف، فإنه لا يكون بمستطاعنا إلا أن نتلقى ذواتنا. وذلك ما يحدث لنا الآن -عدا أننا اثنان- ألست تريد أن تعرف شيئا عن ماضيّ، الذي هو المستقبل الذي ينتظرك؟”

فالحياة في نظر بورخيس نوم طويل، وحلم مستمر… واللقاء مع ذاته القديمة لم يجعله يتقارب معها، على العكس، لقد شعر بالمسافة التي حفرها الزمن، والفجوة التي حدثت في حياته الشبيهة بحلم مخاتل: “لا يمر نصف قرن هباء، وتحت تأثير حديث شخصين ذوي قراءات متنوعة وأذواق مختلفة أدركت أننا لا نستطيع أن نتفاهم. كنا مختلفين بالغ الاختلاف، متشابهين عظيم التشابه. وما كان بإمكاننا أن نتخادع، الأمر الذي يجعل الحوار صعبا. لقد كان كل منا نحن الاثنين نسخة ساخرة من الآخر. وكانت الوضعية مفرطة في الشذوذ حتى تستمر مزيدا من الوقت، والنصح والمناقشة لم يكونا مجديين، لأن مصيرهما الحتمي كان أصير ما أنا هو”

والآن أجدني مثل بورخيس، أتذكّر الطفلة التي كنتها يومًا ما، والتي سأحاول ملاقاتها في هذه التدوينات كي تعينني دهشاتها على التأمل بعد أن بلغت عمر الرتابة، ويساندني وعيها المشتعل على نفض الرماد من عقلي، وتذكّرني كيف كانت تستمتع بانهمار شلال الوقت، ترقص على إيقاع خرير الوقت المنهمر، وتبلل جسدها الغضّ بمياهه المنسابة، لا تخاف اليباس، ولا تهرب خشية الغرق…. تلك البنت التي كانت تحب السهر، وصارت تشكو الأرق… تلك البنت التي كانت ترى في الليل مساحة إضافية ليقظة جذلانة، وصارت ترى في سواده كابوسًا يحتاج إلى ٤ حبات منوّمة.
سأتأمل في هذه التدوينات ليالٍ تقف بين المرأة التي أنا عليها الآن، والطفلة التي كنتها في يومٍ ما… أطول ليلة في هذه المسافة، أقصر ليلة، سأحاول الكتابة عن أسعد ليالٍ عشتها، وعن الليالي التي احترقت بفعل الانتظار، وتلك التي عانت موتًا بطيئًا حين أطبق الخوف يديه حول أعناقها وكتم أنفاسها.

وبعيدًا عن ليل شهرزاد الذي تضيء فيه الحكاية، وعن حلم بورخيس الطويل الذي أيقظه منه الموت، وقريبا من النوم والأحلام، أختم مع صوت وجيه عزيز:
“لمّا بنام بحلم وبعيش
لمّا بفوق، ما بفوقش بموت”

https://soundcloud.app.goo.gl/ceQG2