كتابة عن شحّ الكتابة

وصلتني هذه الرسالة في وقت أشعر فيه -للأسف- بحالة مشابهة، حالة من النضوب والفقر الكتابيّ… أحاول أن أقول لنفسي إنها إجازة، لكن الإجازة عن الكتابة -عندي- لا متعة فيها، بل تشبه الإجازات المَرضية؛ مرض نضوب الفكرة، برود القلب، الانقياد لرتابة الوقت، غفلة الروح، انطفاء الذات، والاعتياد الأعمى وجمود الشعور…
أحاول مواساة نفسي ‏باسترجاع رأي الإيطالي تشارلز بافيزي الذي يقول إن حبسة الكاتب ليست أمرًا سلبيًا على الدوام، قد يكون لها دور فنّي، مثل إسدال الستار في المسرح بين مشهدين.

‏وبالرغم من ارتهاني (لمزاجي) في الكتابة وفي كل أعمالي، أقدّر جدًا أولئك الذين يؤمنون بالدأب والعمل لا بالإلهام والمزاج.
امبرتو إيكو يرفض الاحتكام إلى الإلهام، يقول إنها كلمة سيئة، قد تمنح 10% أمّا الـ90% المتبقية فمصدرها الجهد الفردي.
جاك لندن يقول: “لا يمكنك أن تنتظر الإلهام، عليك أن تطارده بهراوة”
وأحبّ جدًا تعبير أورهان باموك حين يُلخص تجربته قائلًا: إنّ سر الكتابة ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يُمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر، التعبير التركي الجميل: (أن تحفر بئرًا بإبرة)

الروسي مكسيم غوركي في شهادته (كيف تعلمتُ الكتابة) يُلامس مشكلة نضوب الموضوع/ نضوب الكتابة من خلال رسالتين متعارضتين: الأولى من قارئة صغيرة تعتقد أنها تحظى بالموهبة، لكنّ واقعها فقير وشاق، خالٍ من التجارب، فماذا يُمكن أن تكتب وهي تعيش الفقر المدقع؟ يجيب غوركي باستدعاء الثراء الأدبي الذي تركته الشعوب البدائية البسيطة التي لم تُنتج أدبًا مكتوبًا لكنها أغنت حيواتها الفقيرة بالأغاني والحكايات والأساطير.
الرسالة الثانية من شاب عامل يكتب شاكيًا من الحياة، ليس من فقرها، بل من غناها بالتجارب والمواقف، هذا الثراء المحيّر الذي يتطلب قدرة على الخلق والانتقاء… يقول غوركي مجيبًا على هذه الرسالة التي تتقاطع مع تجربته الكتابية: “لأنه تكوّنت لديّ انطباعات كثيرة، لم أستطع إلا أن أكتب” فتجربته الأدبية تقول إنّ شحّ الحياة وثراءها لا يتحكمان في عطاء المبدع.
الكولومبي ماركيز الكاتب المثابر عانى أيضا من فترات التذبذب، وكتب ملاحظات كثيرة عن الفترة التي قضاها في برشلونة وأراد صياغة مجموعة قصصية من هذه الملاحظات، لكنه ألقى بها للنسيان. بعد ربع قرن أراد صياغتها فلم يجد المخطوط، وإعادة كتابة مخطوط مفقود اعتمادًا على الذاكرة قد تكون أصعب من الشروع في عمل جديد، لكن الكاتب العنيد وصف حالته تلك قائلًا إنها كانت (قضية شرف) فبدأ في استعادتها بجهد من الذاكرة. يعرف ماركيز علّة النضوب، ويعالجها بالدأب، يقول: أفقد مرونة الكتابة في الاستراحة بين كتابين، وأجد مشقة أكبر فأكبر في البدء من جديد. ولهذا فرضتُ على نفسي مهمة كتابة مقالة صحفية أسبوعية كنظام انضباطي للحفاظ على سخونة يدي.
هذه حيلة جيدة، تجاهل شح الكتابة الإبداعية، والمضي إلى ثراء البحث لكتابة مقال يعتمد على الجمع والاستقراء والصياغة، لا على الإبداع والخلق.

وهذا يعني أن الركود يصيب أعظم المبدعين،لكن علاج الركود لا يستعصي على المبدع، فإن كانت تفاصيل الطريق غامضة، وخارطة الوصول مخاتلة… فخبرات الذين تجاوزوا عثرة الطريق مطروحة لنا في الطريق.

ما لم يقله أوليفر ساكس عن سنة الرحمة

أظن أن الكتابة عن حدث عام لا عن تجربة خاصة لا تكون كتابة ناضجة ما لم ننفصل عن الحدث زمنيًا فنخرج من دوامته وتتسنى لنا رؤيته من مسافة.
لكن هذه الكتابة التي أُعيد تدويرها هُنا من مدونة طارق الجارد استثناء بديع، عن عالمنا الموبوء بالفواجع، فواجع يصنعها الإنسان من تلقاء ذاته بفضل ذكائه الذي يُحيله إلى أغبى مخلوق على وجه الأرض في صراعاته وطغيانه. وفواجع خارج إرادته، تأتيه من حيث لا يحتسب ويكتشف معها ضعفه وضياعه وضآلته وكم هو أعزل في مواجهة أقداره وسط العالم المحتشد. إنسان أعزل ووحيد لا ينقذه العلم ولا الذكاء ولا الاحتراز ولا تاريخه الطويل مع الكوارث وخبراته السابقة في البقاء تحت ضغط التهديد المستمر.
عن سنة الرحمة في نجد، بموازاة الانفلونزا الإسبانية، وعن الحرب التي يسير لها الناس بحثا عن الانتصار، وعن فايروس يختبئ منه الناس حشودا في بيوتهم مدحورين أمام مدّه الهائل الذي لا يوقفه سلاح ولا خطة هجوم.
عن كل هذا يكتب طارق صورًا محتشدة من عالم منكوب بالقوة، مفتقد للحب… تدوينة تتلاقى فيها الأزمنة المتغايرة، ومكابدات الإنسان القاسم المشترك بين كلّ الأزمنة.
كتابة تذكرني بقول لؤي عباس عن الأدب: “لقاء مصائر لا يخلو من فجيعة”

مجلس عزاء الإنسانية

اللغة مَلَكة الإنسان التي ينفرد بها عن الكائنات، والأدب أسمى تجليات هذه المَلَكة؛ فهذا الإرث الإنساني الأعظم لا يبرمج حاسوبًا أو يخترع جهازًا ذكيًّا أو يصنع شيئًا ماديًّا، فقدراته أمضى من الآنيّة، قدراته تمكنّه من الخلود. نستودعه ماضينا ونربّت به على أكتاف الحاضر المُتْعب.
الأدب لا يُرمّم الماضي، ولا يهذّب الحاضر، ولا يرتّب مكانًا مريحًا للمستقبل… لا يقتل الطغاة، ولا يمنح الفقراء خُبزًا، أو ينتزع السلاح رغمًا، ولا يدلّ مجلس الأمن على مخبأ الأمن المذعور من فظائع العالم.
لكنّ كل هذه (اللاءات) لا تنال من فاعليته، فهو طريقة الإنسان الأزليّة لقول (لا) لكل القبح الإنساني. الأدب مثل يدٍ حانية ومجرِّبة، يد خالدة لمست كل المآسي الإنسانية، اختبرت كل الفظائع، ولطالما تشنّجت غضبا من قلّة حيلتها، وأصابها الشلل مرّات ومرّات، اكتوت بنيران هائلة، ودخلت إلى جحور التجارب وعانت من كل اللدغات. ثمّ جاءت بعد هذا كلّه لتربّت على كتفك بكل حنو… ❤
يوثّق التاريخ المظالم ووحشية الإنسان مع أخيه الإنسان، بينما يوثّق الأدب انعكاسات هذه المظالم في نفوس الناس، يوثّق شعورهم حيالها، ومكابداتهم معها. ولنا في أدب السجون عبرة، ولنا مع أدب الحروب ألف قصّة وقصّة.
باختصار، الأدب أقوى حراك معارضة ضدّ سيادة الطغيان وأقوى مجاهد يحاول أن يهزم الموت.
فالتاريخ متحدث رسمي باسم السلطة، والأدب هتاف الشعوب.وقد كتب هوراس في القرن الأول قبل الميلاد: “كم مِن رجلٍ شجاع عاش قبل عهد أغاممنون، ولكنّ الليلَ الطويل غطاّهم جميعاً، مجهولين لم يشيّعْهم أحد، لأنهم كانوا يفتقدون شاعرًا”
يعلّق مانغويل على مقولة هواس بقوله: نحن أوفرُ حظّاً، إذ أخذنا بما تضمره كلماتُ هوراس. القصائد والقصص التي ستحرّرنا (أو التي سنعثر فيها على نوعٍ من الخلاص) تُكْتَبُ الآن، أو سوف تُكتَب، أو قد كُتِبت وهي في انتظار قُرّائها، لتتولّى عبر امتداد الزمن، المرة تلو الأخرى، القول إن عقلَ الإنسان أوسعُ حكمة على الدوام من أفظع أفعاله، لأنه يستطيع تسميتها؛ وإن ثمة شيئاً في الكتابة الجيدة التي تصف أفظع أفعالنا يكشفُ عن شناعة تلك الأفعال فلا تبدو منيعةً عصية على الاختراق؛ وإن الكاتب الملهَم، رغم هشاشة اللغة واعتباطيتها، يستطيع أن يروي ما هو عصيٌّ على القول ويمنحَ شكلاً لما هو عصيٌّ على التفكير، بحيث يخسر الشرّ بعضاً من سطوته الغامضة ويقف مختزَلاً إلى بضع كلمات لا تُنسى.”
ويقول رسول حمزاتوف في كتابه (بلدي): “تاريخ العالم، كمصير أي إنسان، يجب أن نقسمه إلى قسمين: قبل ظهور الكتاب، وبعد ظهور الكتاب. الفترة الأولى ليل، الفترة الثانية نهار ساطع. الفترة الأولى وادٍ ضيق مظلم، والثانية سهل واسع أو قمة جبل”
‏يقول بورخيس عن هذا الإرث الإنساني العظيم: “إن الكتاب هو الأكثر دهشة بين كل الأدوات التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، إذ إن بقية الأدوات هي امتداد للجسد، فالميكروسكوب والتلسكوب امتداد لرؤية الإنسان، والهاتف امتداد لسمعه، المحراث والسيف امتداد لذراعه، غير أن الكتاب امتداد لشيء آخر، امتداد للذاكرة والمخيلة”
ف‏الأدب أقدم وأوسع مجموعة دعم للمنكوبين في قٌبح هذا العالم. في كتاب (مهنة العيش) كتب بافيزي: “القصائد هي الثأر من حسيّة محضة” وكتب أيضا: “‏ذلك الشِعر الذي نتج عن الحرمان، كان مؤيّدًا بواقع أنّ الشعر الإغريقي الذي يدور حول الأبطال نشأ حين كان أسلافهم مطرودين من أوطانهم حيث يرقد أولئك الأبطال”
وفي مقال بعنوان (لا بدّ من الشعر) يقول ممدوح عدوان: “الشعر هو ذلك الشيء الإيجابي العظيم، هو ما يؤكد لنا أننا نبكي لأننا لم نتعوّد الذلّ بعد ولم نقبله، وأنّنا ننزف لأننا لم نمت، وأننا نغضب لأننا لم نتأقلم مع الظلم”
الأدب فعل مقاومة، وحرب استنزاف مع كل ما يستنزف إنسانيتنا. إنّه الفأس التي تكسر البحر المتجمّد فينا على رأي كافكا.
يورد ما نغويل في كتابه (مدينة الكلمات) جملة لدوبلن تقول: “اللغة صيغة من حبّ الآخرين”
وتتحدث إيزابيل الليندي في الكتاب الذي أرّخت فيه فجيعتها بفقد ابنتها باولا عن الكتابة التي أنقذتها من حزنها، وعن رواياتها المليئة بالأطفال اليتامى الذين تختلقهم كي تواسي الطفلة التي كانتها في فقد أبيها الذي خذلها، إذ خرج ذات يوم ليشتري السجائر ثم لم يعد قط. فأحاطت يُتمها بيتامى رواياتها لتلعب معهم فتنسى أسئلة الفقد وحسرة الغياب… كما تصرّح أن رواياتها تدور غالبًا حول نساء مستقلات قويّات، كافحن ليتغلبن على الصعاب. كي تقول لكل امرأة تكابد على هذه الحياة: لستِ وحدك، أنتِ جزء من كفاح جماعي…
الروائية إليف شفق عاشت وحيدة أيضا، محرومة من حضور الأب الذي اجتث جذوره من حياتها وتركها بلا ظل، فصارت مدينة للكتب التي أنقذتها في طفولتها من شعور الوحدة.

في قصة لغاليانو بعنوان (وظيفة الفن) يقف طفل وشاب أمام البحر، أحدهما يرى البحر لأول مرّة، فيقول لصاحبه: ساعدني كي أرى. وهذه الجملة هي وظيفة الفن التي يشير إليها العنوان، فالفنّ اتّساع في الرؤية، رغم ضيق الوقت.
عن الفن أيضا -والأدب جزء من النتاج الفني- كتبت أوليفيا لاينغ في كتاب (المدينة الوحيدة) الذي تقصت فيه معاناة الوحيدين في مدينة نيويورك المكتظّة بكل شيء ما عدا الألفة، وتتبعت النتاج الفنّي الذي كان وليد الوحدة الشاسعة لمبدعيه، تقول: “هنالك العديد من الأشياء التي لا يمكن للفن فعلها. لا يُمكن للفن إحياء الموتى، لا يمكن للفن حل المشاكل بين الأصدقاء، أو علاج الإيدز، أو حل مشكلة الاحتباس الحراري، ورغم هذا فإن للفن بعض الوظائف الخارقة للعادة، قدرة غريبة للتفاوض بين البشر، خاصة بين أولئك الذين لم يسبق لهم الالتقاء من قبل والذين بإمكانهم أن يُثروا ويُكمِلوا حياة بعضهم البعض. وله أيضا قُدرة على خلق الأُلفة، لديه طريقة مميزة يشفي بها الجراح، وأفضل من هذا بإمكانه أن يوضّح لنا أنه ليست كل الجروح بحاجة للشفاء، وليست كل الندوب قبيحة”
ولعل أقصر وأدلّ وصف للأدب، يتمثل في قول لؤي عباس: “لقاء مصائر لا يخلو من فجيعة”

أما أنا فأرى الأدب كمجلس عزاء أزلي لا ينفضّ أبدًا.

3% .. قراءة ذاتية. لسيمون أمل

“ينقسم هذا العالم إلى قسمين، وافر ونادر. وبينهما هناك (عملية اختيار)”
بهذه العبارة يبدأ مسلسل (3%)، الذي يعرض على شبكة نتفليكس، في موسمين حتى الآن. تقوم الفرضية على أن الموارد لا تكفي لحضارة تحقق الرفاه لكل البشر، فعلى الأجدر أن يثبت أنه يستحق الرفاه بجدارته، لا مجال للتوريث، لا مجال للعلاقات، لا مجال للرحمة ولا المحاباة، عليك أن تكون جديرا بالعيش في مركز الحضارة.
على الطرف الآخر هناك الثائرون على هذه الفكرة، إن الحضارة التي لا يستمتع بها سوى 3% هي حضارة غير عادلة، لابد من العدالة الاجتماعية والمساواة، لابد من الثورة على هذا النظام. هنا تبدأ الجدلية.
ليست الجدلية وحدها بين فكرتين، بل تدخل جدليات أخرى دوافعها النوازع البشرية وغلافها الفكرة، هناك من يرغب بالانتقام، لأن الحضارة المركز قتلت جزءا من عائلته، أو لأنه بكل بساطة فشل في الوصول، وهناك من كان ثائرا حتى وصل، ولم يكن سهلا عليه أن يقاوم إغراء الوفرة. وأيضا هناك من قبل أن يكون ضمن 97% فقط لأنه فشل في الاختبار، ولم يكن جديرا، فدخول الاختبار يعني إضفاء المشروعية على النظام حتى لو لم تنعم بامتيازاته.
هنا منطق بمقابل منطق، فكرة بمواجهة فكرة، إذا كانت الموارد لا تكفي سوى لجزء بسيط من البشر، في جغرافيا محددة، فعلى أي أساس سيتم اختيار المحظيين بها! لنفترض أننا تقدمنا بالفكرة نحو العدالة، وقلنا إن من يستحق الوفرة والتنعم بالحضارة هو (الأجدر)، وحتى نعرف الأجدر علينا أن نقيم اختبارات عادلة. لكن ماذا عمن يولدون بقدرات عقلية أقل، وماذا عمن ينشؤون في عائلات بمستويات تربوية وتعليمية أضعف، وماذا عن المعاقين، وماذا عن الفقراء الذين لم يتحصلوا على تدريب جيد!
هل يستحق الإنسان المساواة لأنه إنسان أم لأنه أجدر؟! في حين تبدو الجدارة عادلة جدا، فإنها معيار هزيل جدا.
لكن هل الجدلية هنا حول الأكثر عدالة، أم حول طبيعة الحياة نفسها؟! لا يهم بأي فكرة تؤمن، المهم جوهر الحياة على أي أساس يقوم؟! قد تكون مؤمنا بأن العدالة ترتبط بالإنسان وليس بجدارته، لكن الحياة لا تقوم على هذا.
نحن نعيش في كون محدود الموارد، بإمكانك أن تقفز بالحضارة آلاف الخطوات للأمام، لكنك لن تستطيع أن تعمم الفكرة على الكرة الأرضية بأسرها.
لنأخذ فكرة محددة، استطاعت الحضارة الغربية أن تتقدم في صناعة الأدوية، لأن سوقها نشأ في أحضان الرأسمالية، فأغدقت الشركات أموالها على الأبحاث العلمية، واستقطبت أفضل العقول، بأموالها، وليس بمبادئها الأخلاقية. فلن يترك الطبيب عيادته، ولا البروفيسور جامعته إلا بدخل مضاعف. وحتى تتمكن هذه الشركات من متابعة أبحاثها الضخمة والمتقدمة، لابد من أن تقدم علاجاتها الناجعة بمبالغ باهظة، ليس بسبب كلفة التصنيع، وإنما بسبب كلفة الأبحاث. نحن هنا أمام تقدم هائل في صناعة الادوية، ولكن المفارقة أن أدوية الملاريا التي يتم تطويرها في هذه الشركات، لا يستطيع المرضى شراءها في المناطق الموبوءة بها (قرابة مليون مصاب في الهند). وينطبق هذا أيضا على أدوية السل. إذن، لمن هذا التقدم، إذا لم يكن متاحا للبشر المحتاجين إليه؟!
هذا ما يقوله المعارضون، بينما يصر المؤيدون لسياسة الشركات متعددة الجنسيات على أنه لا بديل عن هذه المنظومة، فدعوات محاربة الثراء الفاحش الذي يجنيه العلماء والباحثون في هذه الشركات لن تجدي نفعا، لأن استقطابهم وعملهم الدؤوب، ورغبتهم الدائمة في تطوير معارفهم وتجاربهم مبنية على هذا الدخل المرتفع، وليس على قيم أخلاقية منفردة.
الحضارة لا تقوم على التطوع وإنما على النفع، هذا هو باختصار شعار الرأسمالية، التي يعتقد المدافعون عنها بأنه طبيعة الحياة.
ماذا لو كانت طبيعة الحياة تقوم على الأجدر وليس على المساواة، الحياة تنتخب الأقوى، هذا هو الواقع، اقبله أو اتركه، ولا تحاول عبثا أن تصلح ما لا يمكن إصلاحه، لأنك ستكون دائما الهامش الذي يخفف المعاناة ولا يصلح العوج.
العدالة استثناء في هذه الحياة، والصراع أصل، الحروب أصل، شراهة الإنسان أصل، تمركزه حول ذاته أصل. ستكون حقوقيا، وستكون مناصرا للضعفاء، والمرضى، واللاجئين، وستحارب الظلم، والسجون، والتعذيب، وستنجح في التخفيف، ربما، لكنك لن تخلق منظومة بديلة، لأن ما تدعو إليه ضد الحياة، ضد ما قامت عليه، الصراع وانتخاب الأقوى.
أقم دولة العدل، وستنحرف عن مسارها بعد جيل واحد. أو بالأحرى: أقم استثناء العدل، وستعود إلى مسارها الطبيعي بعد جيل واحد.

عذابات الذاكرة، أم إعادة تدوير الأخطاء

قبل شهور كنت أعيد ترتيب جميع أغراضي ومقتنياتي، انهمكت في العمل لأيام، ببطءٍ شديد، ووقوف متكرر. أوراق محتشدة بذكريات عُمر مضى أتوقف أمامها طويلًا فأختنق، صور لأشخاص كبروا ومازالوا معي لكنّي فقدتهم إلى الأبد، وهم أيضا فقدوا كل ما كانوا عليه… رسائل صديقات تخطفتهم الحياة، أو تخطفهم الموت… عشتُ أكثر من عشرة أيام وسط الماضي الذي أرتّبه وأعاني أثناء ترتيبه من نوبات اختناق متتابعة، عملية جرد للذاكرة، وجلد للذات. أسأل نفسي ما جدوى الاحتفاظ بكل هذا ما دمتُ عاجزة عن إيجاد صيغة للتعايش السلمي معه، فقد أيقنت منذ سنوات قليلة أنّ أفضل طريقة للتعايش مع نفسي هي المُباعدة بيني وبيني، بحيث لا أدوّن شيئًا يُذكرني بما أنا عليه الآن، ولا أوثّق أي شيء قد يعترض طريق النسيان.
في (الأشجار واغتيال مرزوق) يقول عبد الرحمن منيف: “لولا النسيان لمات الإنسان لكثرة مايعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجول في رأسه” فالنسيان هو الخلاص الفردي الدنيوي، في دنيا لا تعدنا بشيء، ولذا لطالما تمنيت أن أفقد ذاكرتي فجأة، أو أن أملك القدرة على ترتيبها على الأقل، فأواري الشوك خلف الهشيم، وأفتش عن الاخضرار في أيامي الحالية فأترك له الواجهة، كرصيف تزيّنه أشجار مُرائية غُرِسَت بين يومٍ وليلة كي تتهيأ الشوارع لاستقبال ضيوف من مستوى خاص.
أتمنى أيضا أن تكون لديّ صلاحية المحو والكتابة في ذاكرة الآخرين، فأقتص منها المشاهد التي يُعذّبني مرورهم بها، ويعذّبهم بلا شك. فأنتقي لهم ألوان الواجهة وأكتب اللافتات التي تدلّهم على النسيان، وتدلّ أفراح الأمس على الطُرق التي تستدرج خطواتهم اليوم.
في قصة (أشيائي المنسية) لماريو بينديتي تستيقظ فتاة على كرسي حديقة وهي لا تعرف أي شيء، لا تعرف اسمها، ولا عمرها، لا تعرف في أي يوم تعيش، ولا تتعرف على المكان الذي استيقظت فيه، ولا تتعرف على وجه الرجل الذي يحدّق فيها وتشعر أنه تعرّف عليها ويرغب في بدء الحديث معها، فتتوجس منه “تخشى أن يُدخلها ذلك الشخص في ماضيها، فقد كانت تشعر بسعادة عارمة في نسيانها للماضي” يسألها: هل أصابك شيء؟ فتقول: إنها استيقظت للتو في هذه الحديقة بذاكرة بكر، لا تعرف شيئًا، حتى اسمها لا تعرفه… يأخذ الرجل بذراعها، وتنقاد إليه بشعور سائحة تستكشف، تذهب معه إلى شقته، يقدم لها الويسكي والثلج، يسألها من جديد عن اسمها، تقول إنها لا تعرف، فيضحك ويقول بتهكم (ملكة جمال النسيان) وكلما تقدم الوقت ونمت اللحظات بينهما يصير الرجل الذي سلّمته ذراعها وسارت معه بكل ثقة أقل جاذبية وأكثر ابتذالًا، وكأن تراكم الذكريات يُطفئ الأشياء ويجعلها باهتة وبالية. يتكشّف سعار الرجل، يحاول انتهاك جسدها، تقاومه، تضرب رأسه بزجاجة الويسكي وما أن يتراجع حتى تستغل الفرصة للهرب، تخرج من الباب وتركض على السلالم بفزع وهي تقول: “عليّ أن أنسى هذا، عليّ أن أنسى هذا” وتصل إلى الحديقة التي استيقظت فيها من قبل، تجلس على المقعد ذاته، تُلقي برأسها إلى الخلف وكأنها في حالة إغماء. بعد وقت تستيقظ الفتاة من جديد على كرسي الحديقة وهي لا تعرف أي شيء، لا تعرف اسمها، ولا عمرها، لا تعرف في أي يوم تعيش، ولا تتعرف على المكان الذي استيقظت فيه، ولا تتعرف على وجه الرجل الذي يحدّق فيها وتشعر أنه تعرّف عليها ويرغب في بدء الحديث معها، فتتوجس منه “تخشى أن يُدخلها ذلك الشخص في ماضيها، فقد كانت تشعر بسعادة عارمة في نسيانها للماضي” يسألها: هل أصابك شيء؟ فتقول: إنها استيقظت للتو في هذه الحديقة بذاكرة بكر، لا تعرف شيئًا، حتى اسمها لا تعرفه… يأخذ الرجل بذراعها، وتنقاد إليه بشعور سائحة تستكشف…
أفزعتني هذه القصة في قراءتي الأولى لها، النسيان الذي طالما رأيته كحبل إنقاذ هو المصيدة هُنا، هو الحبل الذي يلتف على ساق الفتاة ويجرّها إلى تكرار الخطأ ذاته، وإلى الانقياد إلى الرجل السيئ في كل مرة دون أن تعرف أنها كانت قبل قليل هاربة منه وهي تقول: “عليّ أن أنسى هذا، عليّ أن أنسى هذا”
في قراءة ثانية للقصة حاولت أن أتصوّرها بالسيناريو المُعتاد، تصوّرت لو أن الفتاة تستيقظ بعد مأساتها وهي تعرف كل شيء، تعرف اسمها وعمرها واليوم الذي تعيشه وتتعرف على الحديقة التي لاذت بها فرارًا من الرجل المريع الذي يُحدّق فيها وتخشى أن يعتدي عليها من جديد، وبدلًا من أن تُسلمه ذراعها بشعور سائحة تستكشف، ستطوي ذراعها في حضنها وتمنع يديها من الامتداد ليده وستفكّر ألف مرة قبل أن تضع يدها في يد غيره أيضا، وستغدو كل الدروب متوحدة مع السلالم التي ركضت فيها وهي تقول: “علي أن أنسى هذا” بإلحاح أجفل النسيان.
فإن كان النسيان يعذّبنا في كل مرة بتكرار الأخطاء، فإنّ الذاكرة تعذّبنا باحتمالات الوقوع في الأخطاء قبل حدوثها.

قابيل: نسخة محدّثة

في الحرب العالمية الثانية، في عام ١٩٤٤ تحديدًا تعرّضت بلجراد لقصف الحلفاء البريطانيين والأمريكيين يوم عيد الفصح، وفي اليوم الثاني تعرّضت إلى غارات ألقت عليها حوالي ٣٧٣ طنًّا من القنابل.
يحكي الشاعر تشارلز سيميك عن أهوال الحرب وفظائع القصف حتى أنّه لا يتذكر أي مشاهد ملوّنة من طفولته، يقول: “هل كان العالم رماديًّا وقتها؟ في ذكرياتي المبكرة كان العالم دائمًا في أواخر الخريف، الجنود رماديون وهكذا هم الناس”
والمفارقة، أن سيميك التقى في عام ١٩٧٢ بأحد الرجال الذين قصفوه في ١٩٤٤ حين قابل بالصدفة الشاعر الأمريكي ريتشارد هيوجو في أحد المطاعم وتحدثا، سأله هيوجو: أين قضيت الصيف؟ فأخبره سيميك أنه عاد للتو من بلجراد.
قال: “آي نعم بإمكاني أن أرى هذه المدينة جيّدًا” وبدأ يرسم تخطيطها العام ببقايا الخبز وبقع النبيذ على مفرش طاولة المطعم. رسم المعالم المهمة، فظنّ سيميك أن هيوجو زار بلجراد سائحًا. فسأله: كم من الوقت قضيت في بلجراد.
أجاب: لم أزرها أبدًا، أنا فقط قصفتها عدّة مرات.
اندفع سيميك مذهولًا: لقد كنتُ أنا هناك وقتها، أنا من كنت تقوم بقصفه…
يا للمفارقة!
يبرر هيوجو غارات القنابل تلك برغبة الطيارين في العودة سريعًا إلى إيطاليا وكان عليهم التخلص من حمولات القنابل بأي طريقة ممكنة ليتمكنوا من العودة، ولذا كانوا يلقونها على بلجراد…
ظلّ هيوجو يطلب الغفران من سيميك، لكنّ سيميك أكّد له أن ذلك بالضبط ما كان سيفعله هو لو كان مكانه. يقول: “بدونا كلاعبين صغيرين مرتبكين في حرب أحداث أكبر من سيطرتنا. هو على الأقل اعترف بمسؤوليته عمّا فعل، هذا ما لا نسمع به في حروب اليوم الآمنة حيث الموضة هي تحميل مسؤولية الأخطاء على التكنولوجيا… كيف تكون الأمور معقدة إلى هذه الدرجة؟”
وقد كتب هيوجو قصيدة اعتذار أهداها إلى سيميك، أعمق وأصعب ما فيها قوله:
“العالم لا يتعلّم أبدًا
التاريخ لديه طريقة لجعل الماضي مقبولًا، لجعل الموتى وهمًا…
لطيف أن أقابلك أخيرًا بعد الكراهية بدون سبب.
المرة القادمة إذا أردت أن تتأكد من نجاتك اجلس على الجسر الذي .
أحاول ضربه ولوّح لي”
*…*…*…*
في حادثة قصف بلجراد تغيب المواجهة المباشرة بين القاتل والقتيل، بفعل آلات الحرب المتطورةصارت حوادث القتل الجماعي تمرّ على الناس مرورًا إحصائيًا، قتلى بلا وجوه، أشلاء لا أجساد، أرقام لا أسماء…
وقد فرّق ممدوح عدوان في كتابه (حيونة الإنسان) بين نوعين من أنواع الإبادة الجماعية: النوع الأول الإبادة التي يرى فيها القاتل الدم الذي يسفكه ويستمتع به، أما النوع الثاني وهو الأكثر شيوعًا – لا سيما بعد التطور الهائل في الأسلحة- الإبادة عن بعد، يكون القتل فيه أكثر شمولًا بحيث إن القاتل يفكر على أساس المناطق على الخارطة أكثر مما يفكر بالأفراد… وقد اعترف أحد الضباط الأمريكيين الذي أعطى الأوامر بتقتيل لواء من جنود عراقيين منسحبين من حرب الخليج الثانية وشارك هو بنفسه في التنفيذ، بأنه شعر بأن الأمر شبيه بلعبة الgame التي يمارسها الأولاد على الكمبيوتر أو الأتاري، وفي الحالتين لا ترى الضحايا بشرًا…. لكن في النوع الأول من الإبادة يرى القاتل النتائج المباشرة لعمله، بينما في الحالة الثانية لا يرى ذلك…

*…*…*…*
عن آلة الحرب المتطورة بتسارع ووحشية لتخدم نوازع القتل والتدمير، كتب غاليانو نصًّا بعنوان (روبوتات وأجنحة) يقول فيه:
” أنباء طيبة. في مثل هذا اليوم من سنة 2011 أعلن كبار الضباط في العالم أن الطائرات التي بلا طيار يمكن أن تواصل قتل البشر.
إن هذه الطائرات التي بلا طيارين، والتي لا طاقم فيها، والتي تُسيَّر بالريموت كونترول، هي في صحة جيدة: فالفيروس التي هاجمها كان إزعاجاً عابراً فحسب.
أسقطت الطائرات التي بلا طيار مطرها من القنابل على ضحايا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في أفغانستان والعراق وباكستان وليبيا واليمن وفلسطين، وخدماتها متوقّعة في بلدان أخرى.
إن الطائرات التي بلا طيار هي المقاتلون التامون في عصر الكمبيوتر الجبّار. فهي تقتل دون ندم، وتطيع دون ملل، ولا تكشف أبداً أسماء أسيادها.”
*…*…*…*
وعن الحروب التي يشعلها الكبار، الكبار الذين هم آخر من يكتوي بنارها، يقول العراقي سليم مطر في روايته (امرأة القارورة):
“خلال سبعة أعوام الحرب قمت بسبع محاولات هرب، انتهت ست منها بالفشل. أما السابعة فنقلتني إلى (جنيف)، لأنها لم تكن بالضبط محاولة هرب قدر ما كانت تيهاً في أنفاق المجهول. وإذا كان الحظ قد حالفني في شيء ، فذلك بأني خلال سبعة أعوام، تمكنت بأعجوبة من أن أنجو من حكم إعدام نفذ بحقّ الآلاف من الفارين مثلي . أعدموا وعُلقت جثثهم أمام منازلهم ليكونوا عبرة للآخرين، بل إن عوائلهم قد أجبرت على دفع ثمن طلقات قد أعدم بها أبناؤها. يمكنكم أن تقولوا عني إني لم أكن شجاعاً في الدفاع عن بلادي، ولكن إذا كانت الشجاعة في عرفكم تعني التضحية بالنفس ، فإني على العكس منكم تماماً، إذ تقاس شجاعتي بمدى تمكني من حفاظي على نفسي. ثم خبّروني باللّه عليكم، هل من الضروري أن تنسحق روحي وتتقطع أوصالي ، لكي يجلس القادة المحترمون في النهاية إلى طاولة المفاوضات لتقاسم بضعة كيلومترات عند حدود ملطخة بدماء ملايين بائسة، ثم هل تضمنون لي أن هؤلاء القادة، بعد الانتهاء من مفاوضات الحدود، سيتفاوضون مع الرب لارجاع حياتي التي نهشتها دباباتهم وبعثرتها قنابلهم ؟ أشد ما كان يقززني ويدفعني إلى التمرد والهرب، صورة شاذة كانت ترتسم في مخيلتي في أثناء تفاقم المحنة: ” إن قادة الدولتين يتناكحون فيما بينهم ونحن جحافل الجيوش عبارة عن حيامن معتقة يقذفونها في بعضهم البعض. ننسكب نحن شهداء ملذاتهم وهم يرتعشون شبقاً في خطبهم وشتائمهم وتهديداتهم لبعضهم البعض. بعد أن يتعبوا وينتهوا، ينبطحون على ظهورهم في سرير المفاوضـات ويمسحون جبهاتهم ومؤخراتهم من جثثنا، ثم يتعانقون بحب”! “شجاع إذا ما امكنتني فرصة فإن لم تكن لي فرصة فجبان”

توالد الحكايات

hqdefault.jpg

 

يقتل الكُتّاب أبطالهم في سطر أو سطرين، لا يستغرق الأمر سوى عدة كلمات تُجهز على الشخصية التي عاشت مئات الصفحات من قبل، فيموت الأبطال وتعيش الحكاية. يكتبُ الرواة أحيانًا عن أبطال مثلهم، رواة آخرون داخل النص، فتلد الحكاية حكايات متداخلة، يعيشُ أبطالها ويموتون مسلوبي الإرادة. في رواية (رجل في الظلام) يكتب (بول أوستر) عن راوٍ يقاوم الأرق بكتابة قصة عن أمريكا التي تتمزق في حرب أهلية، في داخل الحكاية يستيقظ رجل بعيدًا عن مدينته وزوجته وبيته، فيجد نفسه في معمعة حرب لا يعلم كيف دخل إليها، ولصالح مَن يُقاتل؟ ثمة قوة أعلى تتحكم في مصيره، قوة الراوي الذي ابتكره. فهو مجرد شخصية تعيش في رأس شخصية أخرى تحبسه في كل هذا الدمار. لا يقف الاستلاب هُنا، إذ تنبثق في النص جماعة تأمر البطل بقتل الراوي لتنتهي الحرب، لا يستجيب فيصير مُطاردًا ومُهددًا بالقتل من قِبَل هذه الجماعة، حين يسأل لمَ هو تحديدًا من يتوجب عليه قتل الراوي؟ يكون الجواب: لأنك بطل القصة ولا يُمكن لغيرك أن يقوم بهذه المهمة.

تكشف الرواية عن أزمة الفرد الذي يخوض حروبًا لم يفتعلها، ويسير وفق مصير عبثي لم يقرره لذاته. فالذين يفتعلون الحروب هم آخر من يكتوي بنارها. وحين يتمرد البطل على دوره يموت فجأة في مهمته الأخيرة إذ تسقط عليه قذيفة لم تستغرق من الكاتب إلا سطرًا على ورق.

في (الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني تلد الحكاية حكايات أخرى. لكن بشكل مغاير، أبطال النصّ هم من يتحكم في مصير الراوي (سهل الجبلي) الذي يُفاجأ في أحد الصباحات بـ(مسعود الهمذاني) بطل روايته يزوره في مقر عمله بالبنك ليطلب قرضًا ضخمًا يمكنه من سداد الديّات وإنهاء الحرب التي افتعلها الرواي. يقول (سهل) متنصلًا من مسؤوليته: “كيف تتأكد من قدرتك على السداد، ومن يضمنك في هذا؟” ففواتير الحروب تُدفع دائمًا من معيشة ضحاياها، لكن أبطال الدميني يستغلون فراغات النص، ويؤولونه بطريقتهم، فيختطفون الكاتب، ويسجنونه في مغارة. يتناص السجن في رواية (سهل) مع السجن في واقعه، يتذكر أحلامه الماضية، والتنظيم الذي عمل لصالحه فانتهى سجينًا تختنق أحلامه في غرف التحقيق، يُفكّر في الرواية التي كتبها فصار أسيرًا لأبطالها. يتساءل عن آماله وأبطاله وعمله وحياته: “ما الذي يتبقى لي الآن؟ دفعتُ الثمن من عمري في الزنزانة الانفرادية، وحين قررتُ أن أكتب قصة عزّة لأصوغ شخصياتها وأحداثها حسب إرادتي اختطفني أبطال النص وأودعوني المغارات، وها هو مسعود يسرق قطيع الغنم لتكتمل إدانة البنك لي بتهمة تبديد أمواله أو تهمة الاختلاس” فقد دخل الراوي إلى عالم من ابتكاره لكنه عجز عن الخروج منه، أراد أن يُعبّر عن ذاته فأضاع ذاته في دهاليز الفكرة وتداعياتها، فأبطاله ينتفعون من غموض النصّ ويؤولونه لصالحهم، الغموض الذي خلّف فراغات اضطرارية لأن التعبير الصريح لا يُحرّر أحدًا في عوالم القمع، بل يحبس الناس في تداعياته. فيضيع (سهل) كشخص دخل  إلى عوالم أحلامه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فصار حبيسًا في مدافنها.

كلمات وحكايات

فيما يتعلق بالكلمات، أعتقدُ أنّي أملك ذاكرة جيّدة تُمكنني من نقل أحاديث الآخرين بنفس الكلمات التي ينطقونها، لا أكتفي بمعناها العام أو خُلاصة مضمونها.
أحتفظ بذكريات قديمة جدًا عن اللحظات التي سمعت فيها بعض العبارات التي أعجبتني ثمّ صارت ضمن مفضلاتي. على سبيل المثال حين كان عُمري تسع سنوات أخذني عمّي إلى السوبرماركت ليشتري لي هدية العيد فاخترتُ كتابًا صغيرًا عدد صفحاته لا يتجاوز ٦٠ صفحة، وعلى غلافه السميك رسم جميل لوجه طفلة فقيرة، عنوانه (كوزيت).
لم أكن أعرف حينها أن الكتاب نسخة مخصصة للأطفال مُستقاه من كتابٍ ضخم اسمه (البؤساء)
مازلت أتذكر أنّ الكلمات الأولى في الكتاب تقول إن هذه القصة تحكي عن (جان فالجان) الرجل الذي ما زال اسمه محفورًا على طاولة خشبية في مدرسة قديمة. ومن ذلك اليوم إلى اليوم يستدعي ذهني صورة هذه الطاولة كلما مرّ بي اسم رواية (البؤساء) أو (جان فالجان) أو (فكتور هوجو) أرى الطاولة في ذهني وكأني رأيتها بعيني من قبل مع أنّي لم أرَها إلا في خيالي.
في كتاب (كوزيت) كانت زوجة العم الشريرة لا تتوقف عن الصراخ في وجه كوزيت المسكينة، يقول الكتاب إن العمة الشريرة حين تبدأ بالصراخ يبدو فمها مثل فوهة فرن حار تشتعل فيه النيران وينفتحُ بابه في وجه كوزيت فيلفحها بحرارته. أعجبني هذا التشبيه وعَلِق في ذهني، فصرتُ أُعلّق بصري على وجوه الناس الغاضبين حين يصرخون وأتصور أفواههم أفرانًا مفتوحة تلفح الآخرين بلهيبها.
من العبارات الأخرى التي أتذكر دائمًا لحظة لقائي بها أول مرة وإعجابي بقوة معناها، عبارة قرأتها في صفحة المشاكل والحلول في مجلة سيدتي، كنتُ في سن العاشرة، كلما عثرت على مجلة أظلّ أقرأها وأُتأمل صفحاتها لأسابيع، العبارة التي لم تُفارقني كتبتها فتاة راسلت المجلة لتشتكي من حجم قدمها الكبير، كتبت تطلب حلًا لمشكلتها وقالت: “أريد أن أجد علاجًا لمشكلتي ولو كان سمّ أفعى”… فأعجبني هذا التعبير وصرت أستخدمه لسنوات حين أُلحّ في طلب شيء بعيد، فأقول: سأحصل عليه ولو كان ثمن حيازته شرب سمّ أفعى.
من الكلمات الأخرى التي لم أنسَ لحظة سماعها لأول مرة، جملة تقول: (لا تخلّي اللي يسوى واللي ما يسوى يتكلم علينا) سمعتها في مسلسل سعودي لعائلة محمد حمزة كان يُبث بعد نشرة أخبار الثالثة فجرًا وكنت أيامها في عامي الثالث عشر… أعجبتني العبارة وشعرتُ بحاجة ملحّة لاستخدامها، وبالفعل في اليوم التالي أمرت المعلمة زميلتي بتغيير مكان جلوسها، لتبعدها عنّي حتى نكف عن التهامس في وقت الدرس، رفضت زميلتي الانتقال من مكانها، فاغتنمت الفرصة وقلت لها: قومي يا فلانة، قومي لا تخلين اللي يسوى واللي ما يسوى يتكلم علينا.. 😂😂😂 طبعًا دفعت الثمن مضاعفًا، وقضيتُ أيامًا في الإدارة أتلقى فيها التأنيب والتهديد من الوكيلة التي تصرخ عليّ فأشعر أنّ فمها فرن ينفتح في وجهي ويلفحني بلهيبه، طلبت المديرة حضور والدتي لكنّي لم أبلغها باستدعاء المدرسة، ولم يكن لدى الإدارة وسيلة للتواصل معها لأني كنت أعطي المدرسة دائمًا أرقامًا هاتفية وهمية🌚 وفي كل يوم أحضر فيه دون والدتي كانت المديرة تسجنني في مكتبها فأقف باستسلام أمام صراخها وصراخ الوكيلة، أمام الفرن الذي يلفح وجهي بلهيبه.😂

عن الإبداع والتجريب والسخط والرضا

في مجلة العربي عدد يناير ٢٠٠٢ نشرَ جابر عصفور مقالًا عن أستاذته سهير القلماوي، التي بلغ امتنانه لها وتأثره بها أن سمّى ابنته على اسمها.

يحكي جابر عصفور في المقال عن مواقف أستاذته معه من جانبين: جانب أكاديمي، وجانب إنساني.

في الجانب الأكاديمي يكشف عن خطواته الأولى في طريق البحث العلمي، وتهيّبه من كتابة البحث، وثقته واندفاعه وقلّة خبرته. إذ سلّم أستاذته الفصل الأول وهو يشعر بالزهو والإنجاز الذي يشعر به الطالب المبتدئ الذي لم يدرك بعد مدى اتساع جهله. مزّقت أستاذته أوراق الفصل الأول وأعطته قائمة بمراجع ينبغي عليه قراءتها قبل أن يشرع في الكتابة مدفوعًا بحماسة البدايات، وثقة الجاهل، وأحكامه المسبقة.
بعد هذا الموقف انتابته الوسوسة حتى أصابته حُمّى التمزيق، وكلما توسّع في القراءة والإطّلاع شعر بإتساع مساحة جهله فتراجع عن ما كتب… حتى صارت أستاذته سهير تُخبّئ الفصل الذي ينتهي من كتابته في درج مكتبها وتُغلق عليه بالمفتاح وتطلب منه أن لا يستمر في البحث عن الكمال وأن يبدأ في كتابة الفصل الذي يليه وهكذا…
وظلّت عذابات الكتابة وإعادة الكتابة مرّات ومرّات تُلازم الطالب جابر عصفور حتى في مرحلة بحث الدكتوراه، وظلّت أستاذته ترفض أن تُعيد له الفصول التي ينتهي من كتابتها لتمنعه من إعادة الكتابة من جديد بحثًا عن شعور الرضا.
يقول: “حاولتُ إقناعها بأن أحتفظُ أنا بالفصلين فلم تقتنع، وحكتْ لي ملخص إحدى روايات الروائي الفرنسي إيميل زولا وهي عن رسّام شاب أراد أن يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واحدة بلوحة تُقيم الدُنيا ولا تُقعدها في معرض الفن الحديث. وحبسَ نفسه مع الموديل التي كانت تحبّه، وظلّ يرسم ويمحو ما يرسم وطال الوقت، بل مضى الوقت، وافتتح المعرض وهو لم يفرغ بعد، ومَنّى نفسه بالمعرض القادم، فالمهم أن يُنجز ما لم يُنجزه أحد من قبل، ومرّ معرض ثانٍ وثالث ورابع، واللوحة لا تكتمل، والرسام المسكين يدخل في دوامات الجنون تدريجيًا، إلى أن انتهى به الأمر إلى تمزيق اللوحة بسكين كشط الألوان، وتمزيق جسد حبيبته الموديل، ثمّ انتحاره بعد ذلك”
وعلّقت أستاذته على هذه القصة التي روتها بقولها: “لا يُمكن الوصول إلى الكمال، الكمال مثل أعلى نسعى إليه طوال العُمر. حسبنا أن نقوم في كل مرة بواجبنا حسب قدراتنا التي نصل بها إلى أقصى ما نستطيع من عملٍ وجهد. وكل مرّة ننجزُ فيها شيئًا نتعلّم من إنجازنا، ونقتربُ بهذا الإنجاز من الكمال الذي يتباعد عنّا بقدر اقترابنا منه. كأنّه يُريد أن يدفعنا إلى الصعود…”

عن الجانب الإنساني في علاقة الأستاذة بتلميذها يقول الدكتور جابر عن أستاذته: “اكتشفتُ في سهير القلماوي خلال ذلك الوقت أُمًّا حنونًا إلى جانب الأستاذة، فكانت أمّي التي ذهبتُ لأخذ موافقتها عندما قررتُ أن أخطب زميلتي التي أحببتها وأصبحتْ زوجتي وأمّ أولادي ورفيقة العمر إلى اليوم وشجعتني سهير القلماوي على أنْ أمضي فيما فعلت، بل قامت بدور الأمّ فعلًا وكانت كذلك في حفل الزفاف الصغير الذي أقمناه، بل كانت الأم التي تلقّت ابنتي الأولى التي أطلقنا عليها أنا وزوجتي اسم (سهير) وأصبحت أستاذة جامعية اليوم ولا تزال تذكّرنا بأستاذتنا التي ندينُ لها بالكثير”

….

لقراءة مقال جابر عصفور: هُنا

عبور آمن

ينطلق (جلجامش) في رحلته الطويلة للبحث عن سِرّ الحياة وحقيقة الموت وأمل الخلود، فيصل إلى الجبال التي تحرس ذُراها المتقابلة الفوّهة التي تنزل منها الشمس إلى باطن الأرض، يجتاز ممرّ الشمس السفلي في طريقه إلى الطرف الآخر من العالم، ويجد ذاته على شاطئ بحر الموت الذي يفصله عن جزيرة الحكيم الخالد (أوتنابشتيم)، يلتقي في هذا المكان بملّاح الحكيم يحتطب من أجل سيده العارف بسرّ الخلود، هذا الملّاح هو الوحيد الذي بوسعه إعانة (جلجامش) على عبور بحر الموت. ونتيجة لاضطراب الأخير وهيجانه ينكسر الرقم الحجرية التي تعين على اجتياز البحر المميت. ومياة الموت راكدة والهواء فوقها ساكن، حيث لا ريح تدفع ولا مجداف ينفع. لأن مياه البحر حين تصل إلى يد المجدّف ستقتله لا محالة.
يقترح الملّاح فكرة جيّدة للعبور؛ إذ يأمر (جلجامش) أن يحتطب مئة وعشرين شجرة يصنع منها ستين مجدافًا، وحين يلج قاربهما بحر الموت يجدّف جلجامش بمجداف من المجاديف الستين، يدفع القارب مرة واحدة ويُفلت المجداف بعد الدفع إلى الماء لئلا تمسّ يده ما علق عليه من ماء قاتل، ويستخدم مجدافًا آخر، وهكذا إلى أن يصلا.

ألا تقول ملحمة البحث عن الخلود هُنا أن بوسع البشر عبور البحار الراكدة المميتة، والتشبث بآمال الوصول عن طريق تغيير المجاديف كلما اقترب الخطر.
نعم، لا يُعبر النهر مرتين، لكن المجاديف المتكسرة لا تُغرقنا والمجاديف المبتلّة بالركود المميت لا تقتلنا ما دام بوسعنا احتطاب الأمل، وإفلات كل أمل مميت، والتجديف بآخر…