قصص قصيرة جدًا

(احتيال)

أوكلوا للفزاعة مهمة طرد الطيور، وحين حان الحصاد راكموا بيادرهم وتركوها وحيدة بلا زرع تحميه وبلا أنس الطيور.


(ارتباط)

هكذا تحدث الأخطاء المميتة، كانت تحتاج إلى نافذة تُعزيها في الباب الموصد، لكنها لم تثقب الجدار… سمّرت فيه يدها.


(أمومة)

في زمن الحرب؛ المرأة التي أخبرها الطبيب أنها تحمل توأمًا في بطنها، جاءها المخاض فأنجبت طفلها وشاهد قبره.


(غنيمة)

رصدَ رجلٌ ثري وكئيب جائزة نقدية ضخمة لمن يقبض على لحظات فرحه الهاربة ويُسلّمها إليه. لم يفلح أحد. لكنّ الجائزة ذهبت إلى قاطع طريق لا يعرف عنها شيئًا. كان قد وضع نصل السكين على رقبة الثري ليتمكن أصحابه من النهب. وفيما كان الموت يتحسس رقبة الثري، كانت كل لحظاته السعيدة قد عادت لتمر أمام عينيه، وتربّت على خوفه.


(مخالصة)

منذ أن وضع خاتمه في إصبعها وهو يعلمها كيف تبدأ من النهاية، يأخذها دائمًا من نهاية إلى نهاية، كل نقاش يبدأ به من حيث انتهى الآخرون، يقول كلمته ويمضي، فيما يتعلق بأحلامها فقد بدأ من حيث انتهى الآخرون، من النضوب… فيما يتعلق بالحب، بدأ من حيث انتهى الآخرون، من التخوين والشك والسأم… فيما يتعلق بأيامها فقد بدأت من حيث انتهى الأمان، من السقوط أرضًا إثر صفعة، والنهوض إثر رغبة…

بعد سنتين من حياة ابتدأت من النهاية، وصلته منها رسالة نصية تقول:

لنبدأ من حيث انتهى الآخرون، من الموت…

استقبل الرسالة من حيث ينتهي الآخرون، قرأها وأعاد الهاتف بلا مبالاة إلى جيبه…

وحين عاد إلى بيتهما، وجدها انتهت من حيث تبتدئ الأشياء، كانت معلقة في سقف المنزل كفكرة لن تكون، تتأرجح ببطء ورأسها معلق بالسقف.

منامات

كان يُقامر بجسد زوجته التي أنجبت قبيلة صغيرة من البنات على أمل أن يحالفه الحظ فيربح ذكرًا، وكانت زوجته تعتمد على مناماتها في تحديد جنس الجنين، في مرة رأت أن زوجها أهداها مرآة، فأنجبت كبرى بناتها. في مرة كانت تقيس في منامها قلادة ذهبية وتتأملها بإعجاب فأنجبت ابنتها الثانية، في حملها الثالث سقطت الشمس قي غرفة نومها، فأنجبت ابنتها الوسطى. في حملها التالي رأت أنها ترتب ثلاث زهرات في آنية، وفي نفس الآنية نبتت زهرة رابعة، فتحقق المنام في بيتهم ونبتت البنت الرابعة.
في حملها الأخير رأت في منامها أن زوجها يبقر بطنها ويدس فيه جيفة. استيقظت مذعورة وحين فتحت فمها لشرب الماء انبعثت من داخلها رائحة نتنة بشكلٍ لا يُحتمل. غسلت أسنانها، تمضمضت، كشطت لسانها، عطرت فمها، تقيأت عمدًا، فعلت كل شيء للتخلص من هذه الرائحة، لكنّ الرائحة لم تغادرها إلا حين رأت في منامٍ آخر أنها تُنجب كفنًا يُطارد أسماء بناتها ويمحوها من حجرات البيت، استيقظت بوجوم مقبرة، ولم تنبعث من جوفها رائحة الموت، ظلّت بدون منامات حتى جاءها المخاض، فهزت إليها بجذع الأدعية والرجاءات، وبعد ساعات من المخاض المتعسر أنجبت ابنها الأول.


نُشرِت في (المجلة العربية) العدد ٥٠١

قطعان تدوس عشب الليل

رأسي مُثقل بالنعاس، رأسي معتلّ بمتلازمة التفكير الكثيف على المخدة، رأسي يضيء بمئة مصباح ومصباح حين أطفئ الضوء لأنام… في هدوء الليل تصطخب في رأسي مداهمة مفاجئة لوكر الأفكار والذكريات. يبدو الأمر وكأن فرقة عسكرية تقتحم حارة مظلمة وهادئة وعشوائية فيجفل النوم  من كل بيت فيها.

رأسي مثقل بالنعاس، يبتلعني ثقب الوقت الذي يسبق النوم، الوقت الذي يغرز كعبه في الأرض ويرفض السير كطفل نزق وعنيد. فأحتاج إلى فكرة تُنجدني من حشد الأفكار التي تحرّض الأرق. الفكرة التقليدية الأولى التي تخطر في ذهني هي عدّ الخراف، خراف تقفز فوق سور خشبي: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… الأرق ذئب، الذئب قادم، عقلي يحاول أن يتابع عدّ الخراف حتى أنام، أتوتّر وأنا أحاول استباق وصول الذئب فيجفل من توتّري القطيع، يتدافع بلا ترتيب فأفقد القدرة على العدّ… يتدافع القطيع ويدهسني.

رأسي مثقل بالنعاس، وهذا الوقت ثقب أسود يبتلعني فأجدني فيه وحيدة مع نفسي، يبدو الأمر وكأني أفتح الباب لي، فأدخل أكثر من مرة من أبواب تتكاثر كلما انفتح باب. أبواب تتدافع منها نُسخ لا تُحصى من نفسي، أتدافع مع نفسي بالطريقة ذاتها التي يتدافع بها قطيع الخراف فأفقد قدرتي على التنظيم والعدّ أيضا، أفقد قُدرتي على معرفة ذاتي لفرط حضوري وتكرار حضوري وثقل حضوري الذي يدهسني.

رأسي مثقل بالنعاس، والأفكار والمشاهد والصور والأصوات تتدافع في رأسي، تفصيلات صغيرة منسية تركها النهار في رأسي ورحل؛ كالكلمات العالقة التي كان ينبغي أن تُقال، الجُمل المفخخة التي انفجرت في لحظات غضب أهوج، والاعتذارات التي كان ينبغي أن أنقذ نفسي بها لكني تركتها في زحام النهار وظننتُ أنها لن تستدلّ عليّ فجاءت الآن لتنفرد بي.

مشاهد من البيت المحتشد الذي زرته اليوم، الأحذية التي كانت مكوّمة في مدخل الباب المكتظ بالزائرين تترك المدخل وتطأ رأسي المثقل بالنعاس، وتدوس بكعوبها المتفاوتة قلبي حين تذكّرني بوجه العاملة المنزلية الغريبة والوحيدة والمجردّة من الأُنس وسط زحام البيت الذي تخدمه، الأحذية المكوّمة تشمت بقدمي العاملة وتذكرهما كم ابتعدا عن الديار.

رأسي مُثقل بالنعاس، ويزداد هذا الثقل مع حضور المشهد البطيء والكئيب لصبية نحيلة في بدء المراهقة كانت تمسّد شعرها حيرة وارتباكًا بين الزائرات، ونظراتها الخائفة تفتّش في عيون الآخرين عن أي دلالة موافقة أو نظرة رفض كي تتوقف عن ارتجال نفسها وتحصل من خلال الآخرين على الدليل الإرشادي الذي ينبغي أن تسير عليه حين باغتها عمرها ونقلها من طفلة إلى امرأة. هذه الصبية المراهقة هي أنا في وقت مضى، هي أنا في أكثر من موقف مضى… في رأسي الـمُثقل بالنعاس يدوي سؤال ثقيل: أما زلتُ أنا كما أنا؟

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تفوح رائحة قهوة دارت في مجلس النساء إلى جانب صحون الحلا والشوكولاتة التي عجزت حلاوتها عن كسر مرارة الأحاديث، صحون حلا وشوكولاتة هزمتها ملوحة دمع الجارّة التي كانت تُنصت إلى قصص المواساة من نساء جفّفت التجربة عيونهن، ورسب الملح في حناجرهن ووسم أصواتهنّ بحُرقة معتادة أوهمتهن أن هذه الملوحة الحارقة هي الطعم الطبيعي للكلمات.

 رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تنتشر رطوبة غسيل جديد لثياب قديمة جمعنها الجارات لأم أيتام فقدت عائلها، وتعولهم من اللاشيء بسبب عائل لم يشأ أن يجعلها تُحقّق لنفسها أي شيء، ليظلّ كلّ شيء… لكنه لم يظلّ.

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي تجفّ الرطوبة، ويهبّ بعدها هواء حار يبعثه حفيف الثياب القديمة نفسها، بعد أن صارت ثقيلة ثقيلة جدًا بشعور الخجل والضآلة والانكماش والتأنيب أمام الفرح المتجدد الذي استقبلتها به أعين المحتاجين.

رأسي مُثقل بالنعاس، وفي رأسي أشياء كثيرة لا أعرف ماهيتها وتوصيفها، لكنها تتدافع، تتدافع في القلب فيضجرني وقع خطاها وتعثّرها. أستدعي قطيع الخراف وأحاول من جديد أن أستغرق في العدّ حتى أنام، القطيع لا يأتي، لا يصدّقني، تتكرّر قصّة الراعي الذي كان يستغيث بأهل قريته ويدّعي أن ذئبًا هاجم القطيع، وبعد أن يصدقوه أكثر من مرة ويكتشفوا كذبته أكثر من مرّة يمتنعون عن المجيء في المرة التي يجيء فيها الذئب فعلًا، ويفتك بالخراف.

رأسي ثقيل بالنعاس، والقطيع لا يصدّقني ولا يجيء… أخشى من ذئب الأرق، أشيح بوجهي نحو الجدار، أرفع المخدة التي اختنقت بأفكاري من تحت رأسي وأغطي بها وجهي، أحاول أن أتخفّى عن الذئب، أنكفئ على ألف صوت ونظرة وانكسار وصرخة وهزّة قدم مرتبك ونبرة صوت مختنق ومشهد دمعة عالقة… هذا الليل ثقب أسود بلا مخرج طوارئ، تحاول ساعات الليل أن تفرّ وتنجو من ذئب الأرق، تتدافع ساعات الليل، تتدافع كالقطيع، ويحضر الذئب، يفترس الليل الذي تهاوى… يطلع النهار، ورأسي مُثقل بالنعاس وعليه أن يواجه النهار بهذا النعاس الثقيل.

حول محور

hrw_omanreport_illustrations-clock2

ملاحظة أولى:

لهذه القصة متنٌ وهامش، ويصح أن يتم التبديل بينهما.

المتن:

كانت يداها ترتجف بعصبية حين تقوم بأعمال المنزل، لطالما جرحت يدها بسكين الطعام، أحرقت رسغها بغطاء القدر، زلقت قدمها في لزوجة المنظفات، وأحدثت ضجيجًا لا يُحتمل وهي تغسل الأواني في حوض المجلى.

كانت صامتة على الدوام، المرأة الوحيدة الصامتة في المنزل، رغم أنّها كانت تفهم لغتهم، وكان لها لغة هجينة مكسّرة يمكنهم فهمها، لكنها كانت تترك الضجيج الذي يُثيره ارتباكها يتحدث نيابةً عنها. رأسها مُغطى بحجاب يمنع أفكارها من التسرب، وجسدها مشغول بالدوران في حجرات المنزل، تحتمي بصمتها الـمُبالغ فيه فلا تثير ريبة أحد.

 

الهامش:

لطالما سألتْ نفسها ماذا لو أن حديث النفس يُسمع؟ ماذا لو فاض حديث نفسها فبدأ بالتسرب وفقدتْ سيطرتها عليه؟

حين يتبقى من فتات وقتها فضلة تسمح لها بمشاهدة التلفاز يفزعها منظر بطلات المسلسلات وهنّ يحدثن أنفسهن بصوتٍ يسمعه المشاهدون وإن كان لا يسمعه بقية أبطال المسلسل. تتصور أن يحدث لها أمرٌ مشابه، أن تكون شفتاها مُطبقتين وصوت أفكارها مسموع من الآخرين دون علمها. لكنها تفكر بلغتها التي لا يفهمها أهل البيت، وهذا ما يمنحها شيئًا من الأمان. تدور وتدور في دوامة من الطلبات والأفكار والأوامر والنواهي، حتى تسقط من الإعياء كل يوم وهي تكاد أن تنسى اسمها الذي اخترع لها أهل البيت اسم سواه.

تدور الغسالة، يُخبرها صوت استدارة عامود الغسيل عن سأم الدوران في ذات المكان، عن قطع مسافة طويلة في حيز صغير لا تأخذك فيه المسافة إلى أي مكان.

يدور صمّام قدر الضغط، يدور ويُصفّر وحكي لها دورانه عن قوة الضغط ورغبة الانفجار.

تدور لعبة ابن مخدومتها فيصدر منها صوت طنين مزعج كطنين أفكارها، يذكّرها دوران هذه الألعاب  باهتماماتها التي لم يعد لها شكل غير شكل الاستدارة حول الآخرين.

تدور الأرض حول محورها كل يوم، فتتّم شيئًا فشيئًا استدارتها السنوية حول الشمس، فتتعاقب السنين وتتراكم الليالي والنهارات وهي في مكانها. لا تعرف بخبر  هذا الدوران إلا من قياسات ملابس أبنائها البعيدين حين تسمع أنها زادت رقمًا أو رقمين.

فائض

حين بدأ الجوع يدقّ أبواب بيته ويسرق قوت يومه ويُقاسم أولاده طعامهم وينهب منهم بعض الضحكات وكثيرًا من الرغبة في اللعب… قرر أن يقاومه؛ بدأ أولًا في بيع بعض قطع الأثاث التي لا يحتاجها، فاتسعت المساحات في غرف بيته، وصار الجوع أقدر على التجول بإنسيابية. خاف أكثر فانتقل إلى بيت أضيق على أمل أن لا تتسع مساحات بيته الجديد لتسكع الجوع، لكنّ الجوع لم يفارقهم، بل انحشر معهم في تلك الحجرات الضيقة… اضطر رب الأسرة لبيع ثيابه لعلّه يُحرج الجوع، لكن الجوع تعرّى معه وصار يمشي في البيت مستعرضًا عريّه القبيح… فزع صاحب البيت من جرأة الجوع وظلّ يصرخ عليه ويُطالبه بالمغادرة، لكنّ الجوع لم يستجب لكل المناشدات، فأيقن الرجل بأن صوته لا يُسمع، ولن يُغيّر في الواقع شيئًا. قرر أخيرًا بيع لسانه باعتباره من الكماليات التي لا يحتاجها، وضع إعلانًا في الصحيفة اليومية وقد كلفته مساحة الإعلان راتب نصف شهر… لكن الوجيه الذي اشترى اللسان عوّضه عن هذه الخسارة بمربح جيّد. فصار البائع لا يتكلم إلا مادحًا للوجيه المشتري ولا يصرخ إلا لهجاء أعدائه… وحين بدأت الأموال تتدفق بين يديه عجز الجوع عن فهم لغته الجديدة التي بدأ يتحدثها بعد بيع لسانه. صارت حجرات البيت تتكدس بالأثاث والزينة وتضيق على الجوع، فانكفأ على نفسه مُعذّبا بالغربة، ثمّ هرب في النهاية… الجيران الذين شاهدوا الجوع يركض عاريًا خارجًا من بيت الثري الجديد، احتشدوا كلهم في اليوم التالي أمام الصحيفة الرسمية وفي أيديهم إعلانات تقول: (لسان للبيع، استخدام محدود)

دماء مجانيّة

جففت الحياة اليومية رأس الكاتب فهاجرت من عقله الحكايات، وكلما تلقى إتصالًا من الناشر يسأله عن مسار روايته الجديدة يزداد نزوح الأفكار.

كان في بداياته يلتقط الحكاية من ظلال الماضي، ومن أحاديث الناس، من طاولات المقاهي، من الأرصفة، من برامج الواقع، من تعليقات الإنترنت، من صفحة الوفيات… أمكنة لا تُحصى، ومخزون غزير. لكنّه منذُ جعل ظهره دعامة لصخرة اليأس الثقيلة التي أوشكت على الانهيار فوق كامل جسده، صار مُثقلًا عاجزًاعن الركض خلف الحكايات؛ يتجنب استعادة الماضي كي لا يُحرّض سعار الحنين، صار الاستماع إلى أحاديث الناس مشقّة لا يستطيع مكابدتها، فضّل العزلة على ضجيج المقاهي، لم يعد يخرج إلى الشوارع ليتسكع على الأرصفة حين صارت خُطى العابرين عليها تؤلمه وكأنهم يمشون على صدره بحمولاتهم الثقيلة من الهموم والأحزان، ولم يعد قادرًا على استيعاب تزييف الواقع في برامج تلفزيون الواقع فصار مهتمًا ببرامج الواقع التي لا تُسمى بهذا الاسم، اسمها المُعلَن هو (نشرات الأخبار) ويتابعها لأنها الشيء الوحيد الذي يمنحه الأمل بنهاية العالم.

حدث كل هذا حين كان الناشر لا يكف عن معاودة الإتصال به، رغم الحكايات التي اختارت الذهاب بلا عودة، والفواتير التي تتكدّس تحت باب شقته… كان يدرك أن طريقة الإنقاذ الوحيدة هي العودة إلى الوظيفة، وظيفة الكتابة غير الوظيفية، الكتابة التي لا تفعل شيئًا سوى ملاحقة الواقع بدلًا من تغييره… لا بد أن يكتب حكاية، أي حكاية، لا بد أن يُنقذ وضعه المادّي، وأن يحصد نجاحًا قد يعينه على ترميم سقف طموحاته والخلاص من الصخرة الثقيلة التي جعل ظهره دعامةً لها، ولا خلاص إلا بالعودة إلى هذه الوظيفة المترفة، وظيفة الكتابة غير الوظيفية، التي لا تُسمّى بهذا الاسم، اسمها المُعلَن هو: (كتابة إبداعية).

على طريقة أرخميدس الذي وجدها في مغطس الماء، وجدها الكاتب في مغطس الدماء. قرر أن ينقل شريط الأخبار من الشاشة إلى مسوّدة كتابه، مكث يومين أمام التلفاز يدوّن مايسمعه من أنباء، شذّب أخبارًا كثيرة، وبنى روابطًا فيما بينها ليكون لها نسيج متماسك… بعد عمل مستمر وجهد كبير أرسل أوراقه إلى الناشر اللحوح، كان يشعر بجلاء عتمة همومه ويتوهم زوال شعوره بالإفلاس الإبداعي والمادّي.

فيما كان يجدول مصروفات الشهر بحسب العائدات المتوقعة من بيع الكتاب، اتصل به الناشر، كان الإتصال الوحيد الذي لم يبعث في نفسه الرعب منذ شهور. فتلقّى المكالمة وقد هيأ نفسه للمفاوضة على حقوق النشر… لكنّ الناشر لم يمهله وقتًا لحشد حجج التفاوض، إذ صفعه بقوله: نعتذر عن نشر عمل بهذه الركاكة، فالعمل بعيد عن الواقع ومليء بالمبالغات المأساوية التي لا تحترم عقل القارئ ولا يصدّقها عاقل أو مجنون.

قصة الخلق

(١) الكينونة:
في الْبَدء كانتْ الكلِمة، وكانت الكلمة بيدِ الله، كُلُّ شَيءٍ بِهِ كان، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ مِمَّا كان.
من الكَلِمة كانَ الإِنسان، من كلمة: “كُن” انبثقتْ كينونته، لكنّها كانتْ بكماء غير قادرة على إثبات وجودها، فمنحها الله (الكلمة) كي تقول: أنا هٌنا. لولا الكلمة لما كانت، لكنها ظلّت عمياء عرجاء. وبواسطة منحة الكلمة قالتْ الكينونة: بدّد ظُلمة عيني يا الله وأقمْنِي على قدميّ لأسلك الطريق. فخلق الله (الحُريّة) لأجل تضرّعات الكينونة، وبِهَا أبصرتْ واستبصرتْ، واستقامتْ على قدميها ونبتَ لنا جناحان.

٢) الحريّة:
في البدء كانت الأرض، وكانت الأرض بيدِ الصمت. من أنين أحد المطحونين تحت أقدام الأقوياء انبثق الصوت، جال الصوت يبحث عن حنجرة، فاستقرّ في حنجرة امرأة كانت تجول العالم بلا خوف وتجرّب صوتها في الأصقاع، كلما نطقت تدنو منها السماء، حتى امتزجت بها فجعلتها نبيّة، أكملت هذه النبيّة جولتها في العالم وهي تُبشّر الخلق بأول دين ينهى عن العبادة. تلك النبيّة اسمها (حريّة)

٣: (السِجن)
في البدء كان الربيع، وكان الربيع بيد الثوّار والأزهار. مع كلّ هتاف يخضّر غُصن، مع كل لوحة احتجاجية تنبت زهرة، مع كل شهيد يسقط يفرُّ عصفور من اليد ويعلو الشجرة.
اكتملت الحديقة، أو كادتْ تكتمل. كان ينبغي أن تكون مُستراحًا للثوّار، لكن الحارس القديم اشتراها، الحارس المطرود الذي يهوى العبث بالممتلكات العامة كَسَر الأغصان، داس الأزهار، والعصافير التي كانت على الشجرة تلتمس منه أن يُعيدها إلى اليد في أسوأ الأحوال لعلّها تصدّق أنها خير من عشرة على الشجرة، لكنّ الحرس القديم احتطبوا فروع الشجرة، الشجرة تلتمس منهم أن يصنعوا من جذعها مقعدًا في حديقة ليأنس بصحبة الأشجار ويتذكر حياته الأولى، لكنّهم أصرّوا على أن يصنعوا من جذعها التوابيت. ونقلوا العصافير من الشجرة، إلى قبضة اليد، ثمّ إلى صلابة القفص… ومن ذلك القفص انبثقت فكرة السجن أولّ مرة.

صِفْر

(نُشِرتْ في المجلة العربية)

***

سقطت الأرقام من بطاقة هويته، ربما ماتت، أو هربت، لا أحد يعرف شيئًا عن تفاصيل اختفائها الغامض.

في مكتب الأحوال حيث اتجه باحثًا عن نسخة احتياطية للرقم الذي يشير إليه أخبره الموظف أنه غير مُدرج ضمن ملايين الأسماء والأرقام المسجلة في النظام. ارتعب الرجل الذي فقد أرقامه، تضرّع للموظف أن يساعده في استخراج (بدل مفقود) لكنّ الموظف أخبره أنه غير موجود أصلًا ولذا لا يُمكن اعتباره ضمن المفقودات، وبصوته الخافت الذي درّبه الروتين على التعايش مع السأم قال الموظف دون أن يرفع بصره عن الكمبيوتر: النظام نظام، كيف أُبدل شيئًا لا وجود له من الأساس؟

خرج الرجل غاضبًا وطلب مقابلة المدير، لكن السكرتير رفض طلبه بعد أن نظر إلى هويته التي ضاعت أرقامها وقال: المدير مشغول ولا يُمكنني ترتيب موعد لك دون بطاقة تعريف، وبطاقة تعريفك غير صالحة.

خرجَ هائمًا على وجهه، يتذكر دروس القواعد، يتذكر النكرة التي كان بوسعها التملص من تنكيرها حين تتكئ على معرفة فيتم تعريفها بالإضافة. فكّر في كل الموجودات التي يُمكن أن يصير مُضافًا إليها. هل يضيف ذاته إلى الأرض؟ لكنها شاسعة ومتعبة من خطى العابرين، لا يمكنها تعريفه ولا التعرف عليه، ستضيّعه في زحامها وتتنكر لوجهه.

هل يُعرّف ذاته بإضافتها إلى لأحلام؟ لا يُمكن، فالأحلام ليس لها وجود مادي يمكن الاتكاء عليه، إنها كأضواء بناية شاهقة وبعيده، تنطفئ تدريجيًا بحلول المساء فتتركه في عتمة التنكير.

ماذا عن الإضافة إلى الحكومة؟ شبه مستحيلة، فالحكومات لا تُضيف إليها إلا من يحتفظون بأرقامهم مُصانة ونائية عن النسيان.، إنها لا تعرف الناس إلا من خلال الأرقام.

بوسعه إضافة نفسه إلى الأصدقاء، لكنّها مغامرة خطرة، فالأصدقاء يرحلون، تتخطفهم الدروب دائمًا، يخشى أن يسحلوه خلفهم في الطرقات حين يناديهم منادي الرحيل.

ماذا لو أسند ذاته النكرة إلى المرأة؟ ربما ستنظر إليه بدهشة وتسأله عن تاريخه السابق مع التعريف، هي التي لا يعترف بها أحد حتى حين تكون مضافة تلوذ بظلال من أُضيفت إليه.

أخيرًا: فكّر في رشوة الموظف لعلّه يبتكر وجودًا لغير الموجود، لعلّه يمنحه ورقة تعترف به وتعيده علمًا على رأسه أرقام تدلُّ عليه.

وقف أمام الصرّاف، أخرج البطاقة من جيبه وهو يُفكر في المبلغ الملائم لإغراء موظف الأحوال. وضع البطاقة في مدخلها لكنها عادت إليه، حاول ثانية ولفظها الصرّاف مباشرةً قبل أن يبتلع ربعها على الأقل. سحب البطاقة ليتأكد أنها غير مقلوبة، فلم يرَ فوقها أي رقم، اختفت أرقامها أيضا… كيف تواترت الأرقام على الهرب؟

قرر الذهاب إلى البنك، وهُناك وقف مذعورًا حين طالب بمدخراته فأخبره الموظف أنه لا يملك حسابًا بنكيًا. اعترض على هذا الإدّعاء، لكنه عجز عن إثبات العكس، لقد فرّ رقم الحساب أيضا إلى جهة غير معلومة.

في مقر عمله عانى من تجاهل الجميع، لا اتصالات ترد إليه، ولا معاملات تُحال عليه، ولا زملاء يبادلونه تحية الصباح… لقد صار بلا رقم هاتف، بلا رقم مكتب، بلا أرقام في الساعة… وحين قرر تقديم استقالته اعتراضًا على هذه البطالة المقنعة، أخبره المدير أن استقالته مرفوضة، لأنه لا يملك رقمًا وظيفيًا من الأساس، وبالتالي لا معنى لاستقالته هذه، كيف تستقيل وأنت لست على على قيد العمل؟

في المساء يعود إلى شقته بعد نهار مضنٍ يقضيه في البحث عن الأرقام، أرقام لوحات، أرقام شوارع، أرقام سيارات، أي أرقام… لا يجد شيئًا، حتى رقم شقته لا يجده، فيقضي نصف المساء في البحث عن بابه المُندس وسط الأبواب المتشابهة. ويقضي النصف الثاني من مسائه في محاولة تقدير تواريخ انتهاء صلاحية المواد الغذائية الموجودة في ثلاجته، فقد غابت الأرقام التي كانت مسجلة عليها.

نتيجة لكل هذا أصابه التسمم مرات عديدة، وداهمه الجوع بسبب إيقافه عن العمل، ربض على قلبه سأمُ البطالة. فقرر الانتحار بعد مرور أسبوعين على خيانة الأرقام، ابتلع عددًا كبيرًا من الحبوب المنوّمة، واستلقى في سريره مُرّحبًا بموتٍ يعترف به ويعرّفه للمؤبنين فيما بعد، لكنّ الموت تلكأ كثيرًا، تلكأ لساعات ثمّ اعتذر عن الحضور لأن جسد الرجل الذي خانته الأرقام كان عاجزًا عن إدراك عدد الحبوب التي ابتلعها، وبالتالي لم يستجب لها.

منجاة

نُشرت في صحيفة الوطن:

٢٠١٨١٢٠٩_١٨٤٩٥٧3046503488938257268..jpg

في (دُكّان) القرية الصغير رأيتُ (ندى) عدة مرات، فتاة سمراء نحيلة وطويلة لم ينشأ بيني وبينها أي حوار، فلم تحتفظ ذاكرتي بملامحها، ولا أعرفها إلا من خلال صورة يكاد يطمسها غبار السنين. لكنّي أحتفظ بحكاية أمها التي لم أرَها قط، فقد ماتت قبل مولدي. (ندى) تكبرني عُمرًا لكنها لا ترتاد المدرسة، درستْ لعامين وتمّ فصلها لأنها لا تملك أوراقًا ثبوتية في هذا العصر الذي يقدّس الفيزياء ويؤلّه العلوم، لكنّه يتراجع عن تقديس الفيزياء حين يتعلق الأمر بالبشر، فلا يعترف بحضورهم الفيزيائي ولا يرى أجسادهم وأصواتهم والتعابير التي على وجوههم والحيّز المكاني الذي يشغلونه، لا يكفي كل هذا لإثبات وجودهم إن غابت الأوراق المُسماة (إثباتات) فبدونها لن تعرفهم أو تعترف بهم أي جهة رسمية أو غير رسمية.

في (دُكّان) القرية الصغير رأيتُ (ندى) عدة مرات، وفي بيتنا سمعت حكاية أمّها عِدة مرات أيضا، حكاية عن امرأة شابة عانت في زواجها القصير معاناة لا تُطاق فدخلت إلى حجرتها وأحكمت إغلاق الباب، سكبت البنزين على جسدها وكأنها تؤدي طقوس الخلاص، ثمّ أشعلت النار، فماتت، تفحّمت، ترمّدت، وانتثر رمادها في قلوب نساء القريّة التي استحالت سرادق عزاء لا يرتادها المعزّون… تركت خلفها (ندى) ابنتها من زوجها الذي دفعها لهذا المصير المروّع، ولم يكتفِ بهذا بل ترك ابنته في عراء المجهول وقسوة الرفض، تعيش دون أن يستخرج لها أوراقًا ثبوتية تعترف بها، لا شهادة ميلاد تُثبت أنها خرجت من رحم أمّها كباقي البشر، ولا ورقة تطعيمات لتأمين مستقبلها، ولا بطاقة عائلة تضم اسمها، لأنها في الأصل لم تجد عائلة تضمّها.
قد تكون هذه الحكاية أول حكاية أسمعها عن الانتحار، ولذا لم أنسها، وربما كانت ثاني حكاية، والحكاية الأولى عن امرأة لم أعاصرها ماتت غرقًا في إحدى الآبار، اختنقت فيها قبل أن يخنق أهالي القرية رغبتها في الفناء فينقذوها.
وحين انتشلوا جثها الثقيلة اكتشفوا أنها ألقت بنفسها عمدًا في البئر، إذ تقفّوا أثر خطواتها على التراب، فوجدوا أنها كانت تمشي بشكل عكسي نحو الخلف لتتلقفها البئر فجأة دون أن تُبصر هاويتها التي قد تُخيفها فتتراجع أو تتردد. سارت إلى نهايتها بخطة مرسومة، جعلت الموت خلفها لأنها تثق في رحمته وعطفه، أعطته ظهرها واثقة أنّه لن يغدر بها. وجعلت وجهها في وجه الحياة التي لم تنصفها، تُحدّق إلى الفضاء الشاسع أمامها وكأنها تريد أن تعاتبه، لأنه لم يتسع لها… ظلّت تتراجع مذعورة من امتداد الحياة أمامها، تتراجع إلى الوراء، وتتراجع… حتى سقطت في البئر وابتلعها العدم الذي جاءت منه… هذه المرأة هي الشخص الوحيد الذي وجد طريق الرجوع في هذه الحياة. وللقصة توضيحات وشروح تقول إنها فعلت ذلك بعد أن تعبت من شكوك أخيها واتهاماته، لكن هذا التفسير ليس إلا هامشًا لموتها، فالمتن قال لها: لا حياة.

http://www.alwatan.com.sa/Culture/News_Detail.aspx?ArticleID=347945&CategoryID=7

المُستَدرك على قصة برج بابل

تقول أسطورة برج بابل التي تحاول تقديم تفسيرًا لتعدّد اللغات، إن البشر كانوا جميعًا على لسان واحد رغم ارتحالهم شرقًا وغربا فقد كانت تجمعم لغة واحدة مكّنتهم من جمع أمرهم في أرض شنعار من أجل بناء برج طويل يصل إلى السماء. فرأى الرب ما كان من تطاولهم على عليائه فبلبل ألسنتهم كي لا يسمع بعضهم بعضا، فتعذّر التواصل بينهم وتوقف البنيان وتفرّقوا في الأرض، ومن هذه البلبلة نشأت اللغات.
في ذهني طبعة مزيدة عن هذه الأسطورة، تتضممن فصلا إلحاقيا أتخيّل فيه حال الشعراء قبل أن يُبلبل الربّ ألسنة القوم الذين اعتلوا البرج وأطالوا بنيانه. لا بد أنّ الشعراء كانوا حينها في الأسفل يلوذون بظل البنيان ولا ينظرون إليه، كانوا يفكرون في استعارات لوصف السماء لحظة ارتماء البرج في أحضانها. حين تبلبلت ألسن البنّائين الموجودين في الأعلى، انهمرت الكلمات على الشعراء الذين في الأسفل، أصابتهم بعض الكلمات الثقيلة بالكسور، وكلمات أخرى رفّت فوق رؤوسهم بخفة الملائكة، اختبأت في أيديهم بعض الكلمات، وكلمات أخرى علقت في ثيابهم… حازوا أكبر عددٍ ممكن من الكلمات التي نتجت عن تلك البلبلة العظيمة، كلمات كثيرة تكفي لوصف كل شيء، لبناء أي شيء، ولوصف الهدام.
حين تبدد القوم في الأرض وكفّوا عن البنيان، ظلّ بعض الشعراء يحدّقون في السماء ويصفونها باستعارات لا نهائية، استعارات لو رصفوها فوق بعضها لوصلت إلى السماء قبل برج بابل. أما باقي الشعراء الذين ساروا خلف قومهم وتبدّدوا في الأرض وصاروا يعمرونها بكلماتهم في وصف الخراب، ليمدّوا بالاستعارات التي تصف خيبة الأمل جسورًا بين أقوام لا تشترك في اللغات، لكنها منذ الأزل تشترك في التيه والشتات.