“ينقسم هذا العالم إلى قسمين، وافر ونادر. وبينهما هناك (عملية اختيار)”
بهذه العبارة يبدأ مسلسل (3%)، الذي يعرض على شبكة نتفليكس، في موسمين حتى الآن. تقوم الفرضية على أن الموارد لا تكفي لحضارة تحقق الرفاه لكل البشر، فعلى الأجدر أن يثبت أنه يستحق الرفاه بجدارته، لا مجال للتوريث، لا مجال للعلاقات، لا مجال للرحمة ولا المحاباة، عليك أن تكون جديرا بالعيش في مركز الحضارة.
على الطرف الآخر هناك الثائرون على هذه الفكرة، إن الحضارة التي لا يستمتع بها سوى 3% هي حضارة غير عادلة، لابد من العدالة الاجتماعية والمساواة، لابد من الثورة على هذا النظام. هنا تبدأ الجدلية.
ليست الجدلية وحدها بين فكرتين، بل تدخل جدليات أخرى دوافعها النوازع البشرية وغلافها الفكرة، هناك من يرغب بالانتقام، لأن الحضارة المركز قتلت جزءا من عائلته، أو لأنه بكل بساطة فشل في الوصول، وهناك من كان ثائرا حتى وصل، ولم يكن سهلا عليه أن يقاوم إغراء الوفرة. وأيضا هناك من قبل أن يكون ضمن 97% فقط لأنه فشل في الاختبار، ولم يكن جديرا، فدخول الاختبار يعني إضفاء المشروعية على النظام حتى لو لم تنعم بامتيازاته.
هنا منطق بمقابل منطق، فكرة بمواجهة فكرة، إذا كانت الموارد لا تكفي سوى لجزء بسيط من البشر، في جغرافيا محددة، فعلى أي أساس سيتم اختيار المحظيين بها! لنفترض أننا تقدمنا بالفكرة نحو العدالة، وقلنا إن من يستحق الوفرة والتنعم بالحضارة هو (الأجدر)، وحتى نعرف الأجدر علينا أن نقيم اختبارات عادلة. لكن ماذا عمن يولدون بقدرات عقلية أقل، وماذا عمن ينشؤون في عائلات بمستويات تربوية وتعليمية أضعف، وماذا عن المعاقين، وماذا عن الفقراء الذين لم يتحصلوا على تدريب جيد!
هل يستحق الإنسان المساواة لأنه إنسان أم لأنه أجدر؟! في حين تبدو الجدارة عادلة جدا، فإنها معيار هزيل جدا.
لكن هل الجدلية هنا حول الأكثر عدالة، أم حول طبيعة الحياة نفسها؟! لا يهم بأي فكرة تؤمن، المهم جوهر الحياة على أي أساس يقوم؟! قد تكون مؤمنا بأن العدالة ترتبط بالإنسان وليس بجدارته، لكن الحياة لا تقوم على هذا.
نحن نعيش في كون محدود الموارد، بإمكانك أن تقفز بالحضارة آلاف الخطوات للأمام، لكنك لن تستطيع أن تعمم الفكرة على الكرة الأرضية بأسرها.
لنأخذ فكرة محددة، استطاعت الحضارة الغربية أن تتقدم في صناعة الأدوية، لأن سوقها نشأ في أحضان الرأسمالية، فأغدقت الشركات أموالها على الأبحاث العلمية، واستقطبت أفضل العقول، بأموالها، وليس بمبادئها الأخلاقية. فلن يترك الطبيب عيادته، ولا البروفيسور جامعته إلا بدخل مضاعف. وحتى تتمكن هذه الشركات من متابعة أبحاثها الضخمة والمتقدمة، لابد من أن تقدم علاجاتها الناجعة بمبالغ باهظة، ليس بسبب كلفة التصنيع، وإنما بسبب كلفة الأبحاث. نحن هنا أمام تقدم هائل في صناعة الادوية، ولكن المفارقة أن أدوية الملاريا التي يتم تطويرها في هذه الشركات، لا يستطيع المرضى شراءها في المناطق الموبوءة بها (قرابة مليون مصاب في الهند). وينطبق هذا أيضا على أدوية السل. إذن، لمن هذا التقدم، إذا لم يكن متاحا للبشر المحتاجين إليه؟!
هذا ما يقوله المعارضون، بينما يصر المؤيدون لسياسة الشركات متعددة الجنسيات على أنه لا بديل عن هذه المنظومة، فدعوات محاربة الثراء الفاحش الذي يجنيه العلماء والباحثون في هذه الشركات لن تجدي نفعا، لأن استقطابهم وعملهم الدؤوب، ورغبتهم الدائمة في تطوير معارفهم وتجاربهم مبنية على هذا الدخل المرتفع، وليس على قيم أخلاقية منفردة.
الحضارة لا تقوم على التطوع وإنما على النفع، هذا هو باختصار شعار الرأسمالية، التي يعتقد المدافعون عنها بأنه طبيعة الحياة.
ماذا لو كانت طبيعة الحياة تقوم على الأجدر وليس على المساواة، الحياة تنتخب الأقوى، هذا هو الواقع، اقبله أو اتركه، ولا تحاول عبثا أن تصلح ما لا يمكن إصلاحه، لأنك ستكون دائما الهامش الذي يخفف المعاناة ولا يصلح العوج.
العدالة استثناء في هذه الحياة، والصراع أصل، الحروب أصل، شراهة الإنسان أصل، تمركزه حول ذاته أصل. ستكون حقوقيا، وستكون مناصرا للضعفاء، والمرضى، واللاجئين، وستحارب الظلم، والسجون، والتعذيب، وستنجح في التخفيف، ربما، لكنك لن تخلق منظومة بديلة، لأن ما تدعو إليه ضد الحياة، ضد ما قامت عليه، الصراع وانتخاب الأقوى.
أقم دولة العدل، وستنحرف عن مسارها بعد جيل واحد. أو بالأحرى: أقم استثناء العدل، وستعود إلى مسارها الطبيعي بعد جيل واحد.
التصنيف: مقالات سيمون أمل
أحفاد الشمس. تدوينة ل: سيمون أمل
لماذا لا يأخذ الصيف حقه في كتابات الخليجيين، مع أنه حديثنا كل يوم؟!
لأننا نخشى أن يصبح الأمر جديا وحقيقة، ولأننا نعيش حالة الإنكار من يوم ولدنا ووجدنا أنفسنا على هذه البقعة الجغرافية. إننا نعتقد في قراراتنا أن شيئا ما سيتغير، وستصبح الأرض مروجا وأنهارا، وليس كذلك فقط، إن الأثر الإسلامي يقول إنها (تعود)، مما يعني أنها كانت كذلك. وما زلنا نتغنى بفردوسنا الأرضي دلمون التي كانت تمتد من سيهات إلى البصرة.
لا، وألف لا، لن نعيش طول حياتنا في هذا الطقس المناخي، لذلك لن نسمح له بالتسلل في أدبياتنا، وإن فعلنا فلأننا مضطرون لذلك، فسنفعل بخجل وحذر.
تخيل أن تكتب نصك الروائي وأنت تتحسس الرطوبة تأكلك كالبق، وتعيث في رأسك كالقمل!
حدثتني أمي أنهم في (عزّ الصيف) كان غداؤهم اللبن وخبز الصاج، لأن المعدة يصيبها الغثيان من الضحى إلى غروب الشمس. وأن الرجال كانوا يلبسون ثوب (الململ) على أجسادهم شبه العارية، ويستحيل شفافا لصيقا بفعل الرطوبة. وأنهم يفزعون منتصف الليل من كوابيس تشبه تلك التي تصيبنا بسبب التخمة. وفي الصباح تكون السماء قد غسلتهم برطوبتها.
ليتني أعرف سر كلمة (عزّ)، في استعمالاتنا، فأين العزّ في (عزّ القايلة)!
يعتقد الخليجيون أن الصيف ثمانية أشهر أو عشرة، والواقع أنها ثلاثة فقط وقد تمتد إلى أربعة. فـ (عزّ الصيف) يبدأ من شهر 6 حتى نهاية 9، وإذا امتد أخذ من شهر 5 أو 10. وبقية الأشهر هي ليست قاتلة، وشتاؤنا لطيف دائما مهما اشتدت برودته، نعرف لمسة الربيع، ولا نعرف ما هو الخريف.
صيفنا يشبه والد كافكا، يمارس العنف السلبي، ليس موجودا في كل مكان، لكنه ممتد بذاكرته في كل التفاصيل.
نحن نتحدث عن الصيف القادم والفائت طوال السنة، ونشعر أن علينا أن نفعل شيئا في العام المقبل تجاه مكيفات المنزل، ومظلة السيارة، وفاتورة الكهرب، وحرارة ماء الحمام. لكننا نتحدث ولا ننجز إلا القليل، لأن (عز الصيف) يتفوق علينا في كل سنة.
في الصيف نصبح مثل رواد الفضاء، نبقى في مركبتنا نشاهد الكون من النافذة الزجاجية، ونتناقل طرائف العالم في الخارج، ونشاهد قلي البيض على أسطح السيارات وساحات المدارس، وتلف حاجياتنا التي نسيناها في السيارة، وتفجر زجاجات العطر، ونضحك.
إذا اضطرتنا الحياة للخروج نعود لسلوك أجدادنا الثدييات، التي نجت بفعل مهارة الاختباء والتنقل السريع، حين كانت الديناصورات تتبجح بالتجول عارية أمام الوجود، فأهلكتها الموجات الجليدية. نحن الثدييات نعرف كيف ننسحب ونختبئ، وننتقل بسرعة من بيتنا إلى السيارة، ومن السيارة إلى المكتب، ونعرف كيف نؤجل كل عمل يتطلب الخروج، فنبقى في البنايات حتى ينتهي الدوام.
نراقب العالم يهلك من حولنا، النباتات الخارجية تحترق، والطيور تسقط من السماء، وحتى نباتاتنا الداخلية اللصيقة بالنوافذ تموت خوفا. ولا ينجو معنا سوى الزواحف، والقطط.
بعضنا قرر أن نأخذ ثأرنا من الديناصورات، حين افترت وعثت الفساد وسفكت دماء أجدادنا الثدييات. فإذا جاوزت الحرارة خمسا وأربعين درجة، خرجوا في عطلة نهاية الأسبوع مع طلوع الفجر، وسط صحراء الربع الخالي، يصطادون أحفادها (الضب)، يتبعونه ويجرون وراءه ويغوصون في جحوره من طلوع الشمس إلى غروبها. حتى إن الضب يستسلم من شدة الحرارة، أو من سخرية القدر به، ومن عدم قدرته على استيعاب سلوكنا. لقد رأيت أصدقاء يعودون في مساءات يوم الجمعة والسبت، جلودهم محترقة بفعل حرارة الشمس، يتحدثون عن متعة الصيد. ويعودون للفعل ذاته في الأسبوع التالي.
كثيرا ما ترى موظفا خارج حدود مقر عمله، يقف تحت الشمس في المنطقة التي يسمح له فيها بالتدخين، ممسكا بيده كاسا من الشاي الحار.
في الحقيقة هؤلاء هم أملنا الوحيد في البقاء. نحن الجبناء المختبئون لن نصمد طويلا مع اتساع ثقب الأوزون، وسنبقى نحلم بعودة الجزيرة إلى مروج وأنهار. أما أولئك فسينجبون جيلا يشرب الدخان ويقف ويحتسي الشاي تحت الشمس أثناء تعامدها على الأرض واختفاء الظل. هؤلاء وحدهم أمل أهل الجزيرة في البقاء.
*سيمون أمل