كتابة عن شحّ الكتابة

وصلتني هذه الرسالة في وقت أشعر فيه -للأسف- بحالة مشابهة، حالة من النضوب والفقر الكتابيّ… أحاول أن أقول لنفسي إنها إجازة، لكن الإجازة عن الكتابة -عندي- لا متعة فيها، بل تشبه الإجازات المَرضية؛ مرض نضوب الفكرة، برود القلب، الانقياد لرتابة الوقت، غفلة الروح، انطفاء الذات، والاعتياد الأعمى وجمود الشعور…
أحاول مواساة نفسي ‏باسترجاع رأي الإيطالي تشارلز بافيزي الذي يقول إن حبسة الكاتب ليست أمرًا سلبيًا على الدوام، قد يكون لها دور فنّي، مثل إسدال الستار في المسرح بين مشهدين.

‏وبالرغم من ارتهاني (لمزاجي) في الكتابة وفي كل أعمالي، أقدّر جدًا أولئك الذين يؤمنون بالدأب والعمل لا بالإلهام والمزاج.
امبرتو إيكو يرفض الاحتكام إلى الإلهام، يقول إنها كلمة سيئة، قد تمنح 10% أمّا الـ90% المتبقية فمصدرها الجهد الفردي.
جاك لندن يقول: “لا يمكنك أن تنتظر الإلهام، عليك أن تطارده بهراوة”
وأحبّ جدًا تعبير أورهان باموك حين يُلخص تجربته قائلًا: إنّ سر الكتابة ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يُمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر، التعبير التركي الجميل: (أن تحفر بئرًا بإبرة)

الروسي مكسيم غوركي في شهادته (كيف تعلمتُ الكتابة) يُلامس مشكلة نضوب الموضوع/ نضوب الكتابة من خلال رسالتين متعارضتين: الأولى من قارئة صغيرة تعتقد أنها تحظى بالموهبة، لكنّ واقعها فقير وشاق، خالٍ من التجارب، فماذا يُمكن أن تكتب وهي تعيش الفقر المدقع؟ يجيب غوركي باستدعاء الثراء الأدبي الذي تركته الشعوب البدائية البسيطة التي لم تُنتج أدبًا مكتوبًا لكنها أغنت حيواتها الفقيرة بالأغاني والحكايات والأساطير.
الرسالة الثانية من شاب عامل يكتب شاكيًا من الحياة، ليس من فقرها، بل من غناها بالتجارب والمواقف، هذا الثراء المحيّر الذي يتطلب قدرة على الخلق والانتقاء… يقول غوركي مجيبًا على هذه الرسالة التي تتقاطع مع تجربته الكتابية: “لأنه تكوّنت لديّ انطباعات كثيرة، لم أستطع إلا أن أكتب” فتجربته الأدبية تقول إنّ شحّ الحياة وثراءها لا يتحكمان في عطاء المبدع.
الكولومبي ماركيز الكاتب المثابر عانى أيضا من فترات التذبذب، وكتب ملاحظات كثيرة عن الفترة التي قضاها في برشلونة وأراد صياغة مجموعة قصصية من هذه الملاحظات، لكنه ألقى بها للنسيان. بعد ربع قرن أراد صياغتها فلم يجد المخطوط، وإعادة كتابة مخطوط مفقود اعتمادًا على الذاكرة قد تكون أصعب من الشروع في عمل جديد، لكن الكاتب العنيد وصف حالته تلك قائلًا إنها كانت (قضية شرف) فبدأ في استعادتها بجهد من الذاكرة. يعرف ماركيز علّة النضوب، ويعالجها بالدأب، يقول: أفقد مرونة الكتابة في الاستراحة بين كتابين، وأجد مشقة أكبر فأكبر في البدء من جديد. ولهذا فرضتُ على نفسي مهمة كتابة مقالة صحفية أسبوعية كنظام انضباطي للحفاظ على سخونة يدي.
هذه حيلة جيدة، تجاهل شح الكتابة الإبداعية، والمضي إلى ثراء البحث لكتابة مقال يعتمد على الجمع والاستقراء والصياغة، لا على الإبداع والخلق.

وهذا يعني أن الركود يصيب أعظم المبدعين،لكن علاج الركود لا يستعصي على المبدع، فإن كانت تفاصيل الطريق غامضة، وخارطة الوصول مخاتلة… فخبرات الذين تجاوزوا عثرة الطريق مطروحة لنا في الطريق.

لا عاصم اليوم، لا معصوم

يُعذّبني تأنيب الضمير، يُعذّبني. يسحلني في ليالٍ كثيرة، يُذكّرني بعتمة روحي التي أطفأت في أرواح الآخرين البهجة أو الصدق أو الثقة أو اليقين أو وهج اللحظة، أو انتزعت من اللحظة الرتيبة العادية عاديّتها وجعلتها لحظة قاتمة وخانقة.

تعذّبني الذاكرة، وترعبني فكرة أنّ بعض تصرفاتي التي أتذكرها أو لا أتذكرها قد صارت ندوبًا في ذاكرة أي شخص عرفته.

تعذّبني قلّة حيلتي أمام فظاعات العالم ومآسيه، وأتعذّب أكثر حين أتصور أن يدي العاجزة عن إصلاح العالم قد تكون فاعلة في تخريبه أو في مفاقمة أوجاع من يتعذبون يوميًا فيه. فما أنا إلا وريثة آدم وسلالته، على ظهري إرث هائل من الخطايا البشريّة والنقص الوراثي.

يعذّبني الانتصار والتعادل والخسران، إن انتصرتُ لنفسي بردّ الأذى مضاعفًا لمن آذاني، أو إن سعيت إلى إنصاف نفسي ممن يؤذيني بإتخاذ إجراء يحقق العدالة والتعادل، أو إن خسرتُ نفسي واستسلمت للأذى، في كل هذه الأحوال أتعذّب، أتعذّب من فكرة أننا في هذه الحياة المتسعة لنا جميعًا، لا نملك إلا خيارات ضيقة في تعايشنا معا، إما أن نؤذي الآخرين، أو يؤذوننا.

زهير بن أبي سلمى بعد أن سئم تكاليف الحياة، واختبر الناس، وعركته الخطوب، وأنضجته الأيام، وسار به العمر إلى مكان شاهق وقصيّ فصار من مكانه هذا يرى الحياة برؤية أوسع، وينظر إلى المشهد كاملًا، يقول: “ومن لا يتقي الشتم يُشتمِ” و “من لا يظلم الناس يُظْلمِ”
أيعقل يا زهير؟ أيعقل أنك من على جبل الشيخوخة الشاهق ما رأيت في حياتنا مناطق آمنة وحيادية لا تطحنها رحى الصراعات؟

حُرّاس الدهشة

يقول الرافعي: “إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلّا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها” ففي بداءة العُمر تُلغي لذّة الاكتشاف بداهة الأشياء مهما كانت مكرّرة ويوميّة. وأكثر ما يحتاجه الكاتب هو القدرة على الاحتفاظ بشعور الدهشة حيال الأشياء، الجميل منها والرديء، دهشة إجلال الجمال في اليومي والمكرر والمعتاد، ودهشة إنكار القُبح الذي يستترُ بتكرار الحضور حتى يغدو مألوفًا لا يستوجب حضوره الإنكار.
لكي نحرس الدهشات، علينا أن نعود إلى مستودع أفكار الطفولة، حيث الأفكار الساحرة التي تؤسطر المألوف وتلوّن الرمادي، وتفعل العكس أيضا، فتدجّن المستحيل وتعيد مونتاج الحياة في خيالاتها فتجعل اللا ممكن ممكنًا بكل بساطة. فالطفل الذي يتعجّب من عصفور يُغرّد، وسحابة تعبر السماء، هو نفسه الذي يسير في الليل متقينًا من أن القمر يسير خلفه، ويصرخ في الأماكن الخاوية كي يخلق حوارًا مع صدى صوته.
عن خيال الأطفال المتطاول بلا سقف، يقول ماركيز: “عندما حطّ نيل ارمسترونع فوق سطح القمر، صاح مذيع التلفزيون منفعلًا: ها هو ذا الإنسان يضع قدمه على القمر لأولّ مرّة في التاريخ. ففوجئ الطفل الذي كان يتابع معنا بشغف تفاصيل الهبوط، وصرخ مذهولًا: أهي المرّة الأولى؟ يا للحماقة!”
وأقول يا لهذه الدهشة الساحرة، الدهشة من أن الأشياء البعيدة استغرقت كل هذه المسافة لتصل.
يكتب ممدوح عدوان في كتابه (هواجس الشعر) عن بعض خيالات الطفولة الغرائبية التي يكذّبها العِلم وتمحوها التجربة ويشترك البشر في الاعتقاد بها في طفولتهم فقط. ويرى ممدوح أن ما يُميّز الشاعر هو قدرته على الاحتفاظ بهذه المعتقدات التي تؤسطر الأشياء، ويسميها عدوان (شجاعة البراءة الشعريّة) يقول: “بعد أن كبرنا ظلّ فينا شيء من ذلك الجهل الطفل الجميل، ولكننا لم نعد نجرؤ على الاعتراف به إلا في الشعر، أو في الفنّ عمومًا… الشاعر وحدهُ هو الذي يملك شجاعة أن يظلّ طفلًا، أو أن يعود إلى طفولته بين الحين والآخر، وأن يتعامل مع العالم حسب رؤاه الطفولية هذه، وبالتالي يقبل أنّه لم يكبر”.
بهذه القدرة على الاحتفاظ بالدهشة وبعثها أنقذت شهرزاد رقبتها ورقاب النساء من سيف شهريار، حيث أبقت شعور الدهشة مشتعلًا في قلبه وذهنه لألف ليلة وليلة. تمتلئ حكايات شهرزاد بالنسوة الخائنات، وكان يُمكن لهذا أن يُعزّز نظرة شهريار العدائية ويحرّض عقدته تجاه النساء فيضرب عنق شهرزاد، إلا أن الحكايات لا تقوم على المألوف الذي عانى منه شهريار، بل على العجب، فيحضر السحر في كل حكاية من الحكايات الألف، وفي كل حكاية أيضاً يُبْطَل السحر الذي افتعلته امرأة بواسطة امرأة أخرى. فكسرتْ شهرزاد اعتياد شهريار حين أدهشته بالنسوة الصالحات اللاتي يُبطلن سحر النسوة الخائنات في كل حكاية، فكانت حكايات الليالي الألف بمثابة مرافعة مدهشة من شهرزاد عن بنات جنسها بصورة غير مباشرة، مُرافعة طويلة ضد الاعتياد والأحكام القمعية الجاهزة.
تقول العرب في ذمّ الاعتياد والنظرة الرماديّة إلى الكون والأشياء: “أعجب من العجب، ترك التعجب من العجب”
وبحسب المعاجم، العجب: هو إنكارُ ما يَرِدُ عليك لقِلَّةِ اعْتِيادِه. وقد بدأ زكريا القزويني كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) بحديث في معنى العجب، فهو التحيّر إزاء الأشياء التي يراها الإنسان لأولّ مرة، وضرب مثالًا بشعور مَن يرى خلية نحل للمرة الأولى، كيف سيستغرق متأملًا في دقائق الخلية وأبعادها وألوانها: “فهذا معنى العجب، وكل ما في العالم بهذه المثابة، إلا أنّ الإنسان يدركه في زمن صباه عند فقد التجربة، ثمّ تبدو فيه غريزة العقل قليلًا قليلًا وهو مستغرق الهمّ في قضاء حوائجه وتحصيل شهواته وقد أنِس بمدركاته ومحسوساته فسقط عن نظره بطول الأنس بها…”
وفي مقدمة كتاب (الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب) يقول الدكتور شاكر عبدالحميد: “الأكثر غرابة من الغرابة نفسها، أن تتحوّل الأشياء التي كان ينبغي النظر لها على أنها غريبة، إلى أشياء عاديّة ومألوفة”‏
ولأنّ العجب مُرتبط برؤية الأشياء لأول مرّة، ولأنّ الإنسان في مقامه الطويل على الأرض رأى الأشياء ملايين المرات، فطوبى لمن كان قادرًا على حراسة طفولته، سواء في الكتابة والانتاج، أو في القراءة والتلقي. وأعظم الدهشات هي تلك التي تتخلّق بطول الملازمة والغوص خلف الثمين، فترى في الشيء الذي تطالعه ألف مرة شيئًا جديدًا في كل مرة. يقول شيخ البلاغيين المعاصرين الدكتور محمد أبو موسى الذي فنيت بين يديه نُسخ عديدة من كتب عبد القاهر لازمها دون أن يُفارق دهشته: “أعيذك بالله أن تقرأ ما يُدهش ولا تندهش”

عذابات الذاكرة، أم إعادة تدوير الأخطاء

قبل شهور كنت أعيد ترتيب جميع أغراضي ومقتنياتي، انهمكت في العمل لأيام، ببطءٍ شديد، ووقوف متكرر. أوراق محتشدة بذكريات عُمر مضى أتوقف أمامها طويلًا فأختنق، صور لأشخاص كبروا ومازالوا معي لكنّي فقدتهم إلى الأبد، وهم أيضا فقدوا كل ما كانوا عليه… رسائل صديقات تخطفتهم الحياة، أو تخطفهم الموت… عشتُ أكثر من عشرة أيام وسط الماضي الذي أرتّبه وأعاني أثناء ترتيبه من نوبات اختناق متتابعة، عملية جرد للذاكرة، وجلد للذات. أسأل نفسي ما جدوى الاحتفاظ بكل هذا ما دمتُ عاجزة عن إيجاد صيغة للتعايش السلمي معه، فقد أيقنت منذ سنوات قليلة أنّ أفضل طريقة للتعايش مع نفسي هي المُباعدة بيني وبيني، بحيث لا أدوّن شيئًا يُذكرني بما أنا عليه الآن، ولا أوثّق أي شيء قد يعترض طريق النسيان.
في (الأشجار واغتيال مرزوق) يقول عبد الرحمن منيف: “لولا النسيان لمات الإنسان لكثرة مايعرف، لمات من تخمة الهموم والعذاب والأفكار التي تجول في رأسه” فالنسيان هو الخلاص الفردي الدنيوي، في دنيا لا تعدنا بشيء، ولذا لطالما تمنيت أن أفقد ذاكرتي فجأة، أو أن أملك القدرة على ترتيبها على الأقل، فأواري الشوك خلف الهشيم، وأفتش عن الاخضرار في أيامي الحالية فأترك له الواجهة، كرصيف تزيّنه أشجار مُرائية غُرِسَت بين يومٍ وليلة كي تتهيأ الشوارع لاستقبال ضيوف من مستوى خاص.
أتمنى أيضا أن تكون لديّ صلاحية المحو والكتابة في ذاكرة الآخرين، فأقتص منها المشاهد التي يُعذّبني مرورهم بها، ويعذّبهم بلا شك. فأنتقي لهم ألوان الواجهة وأكتب اللافتات التي تدلّهم على النسيان، وتدلّ أفراح الأمس على الطُرق التي تستدرج خطواتهم اليوم.
في قصة (أشيائي المنسية) لماريو بينديتي تستيقظ فتاة على كرسي حديقة وهي لا تعرف أي شيء، لا تعرف اسمها، ولا عمرها، لا تعرف في أي يوم تعيش، ولا تتعرف على المكان الذي استيقظت فيه، ولا تتعرف على وجه الرجل الذي يحدّق فيها وتشعر أنه تعرّف عليها ويرغب في بدء الحديث معها، فتتوجس منه “تخشى أن يُدخلها ذلك الشخص في ماضيها، فقد كانت تشعر بسعادة عارمة في نسيانها للماضي” يسألها: هل أصابك شيء؟ فتقول: إنها استيقظت للتو في هذه الحديقة بذاكرة بكر، لا تعرف شيئًا، حتى اسمها لا تعرفه… يأخذ الرجل بذراعها، وتنقاد إليه بشعور سائحة تستكشف، تذهب معه إلى شقته، يقدم لها الويسكي والثلج، يسألها من جديد عن اسمها، تقول إنها لا تعرف، فيضحك ويقول بتهكم (ملكة جمال النسيان) وكلما تقدم الوقت ونمت اللحظات بينهما يصير الرجل الذي سلّمته ذراعها وسارت معه بكل ثقة أقل جاذبية وأكثر ابتذالًا، وكأن تراكم الذكريات يُطفئ الأشياء ويجعلها باهتة وبالية. يتكشّف سعار الرجل، يحاول انتهاك جسدها، تقاومه، تضرب رأسه بزجاجة الويسكي وما أن يتراجع حتى تستغل الفرصة للهرب، تخرج من الباب وتركض على السلالم بفزع وهي تقول: “عليّ أن أنسى هذا، عليّ أن أنسى هذا” وتصل إلى الحديقة التي استيقظت فيها من قبل، تجلس على المقعد ذاته، تُلقي برأسها إلى الخلف وكأنها في حالة إغماء. بعد وقت تستيقظ الفتاة من جديد على كرسي الحديقة وهي لا تعرف أي شيء، لا تعرف اسمها، ولا عمرها، لا تعرف في أي يوم تعيش، ولا تتعرف على المكان الذي استيقظت فيه، ولا تتعرف على وجه الرجل الذي يحدّق فيها وتشعر أنه تعرّف عليها ويرغب في بدء الحديث معها، فتتوجس منه “تخشى أن يُدخلها ذلك الشخص في ماضيها، فقد كانت تشعر بسعادة عارمة في نسيانها للماضي” يسألها: هل أصابك شيء؟ فتقول: إنها استيقظت للتو في هذه الحديقة بذاكرة بكر، لا تعرف شيئًا، حتى اسمها لا تعرفه… يأخذ الرجل بذراعها، وتنقاد إليه بشعور سائحة تستكشف…
أفزعتني هذه القصة في قراءتي الأولى لها، النسيان الذي طالما رأيته كحبل إنقاذ هو المصيدة هُنا، هو الحبل الذي يلتف على ساق الفتاة ويجرّها إلى تكرار الخطأ ذاته، وإلى الانقياد إلى الرجل السيئ في كل مرة دون أن تعرف أنها كانت قبل قليل هاربة منه وهي تقول: “عليّ أن أنسى هذا، عليّ أن أنسى هذا”
في قراءة ثانية للقصة حاولت أن أتصوّرها بالسيناريو المُعتاد، تصوّرت لو أن الفتاة تستيقظ بعد مأساتها وهي تعرف كل شيء، تعرف اسمها وعمرها واليوم الذي تعيشه وتتعرف على الحديقة التي لاذت بها فرارًا من الرجل المريع الذي يُحدّق فيها وتخشى أن يعتدي عليها من جديد، وبدلًا من أن تُسلمه ذراعها بشعور سائحة تستكشف، ستطوي ذراعها في حضنها وتمنع يديها من الامتداد ليده وستفكّر ألف مرة قبل أن تضع يدها في يد غيره أيضا، وستغدو كل الدروب متوحدة مع السلالم التي ركضت فيها وهي تقول: “علي أن أنسى هذا” بإلحاح أجفل النسيان.
فإن كان النسيان يعذّبنا في كل مرة بتكرار الأخطاء، فإنّ الذاكرة تعذّبنا باحتمالات الوقوع في الأخطاء قبل حدوثها.

توالد الحكايات

hqdefault.jpg

 

يقتل الكُتّاب أبطالهم في سطر أو سطرين، لا يستغرق الأمر سوى عدة كلمات تُجهز على الشخصية التي عاشت مئات الصفحات من قبل، فيموت الأبطال وتعيش الحكاية. يكتبُ الرواة أحيانًا عن أبطال مثلهم، رواة آخرون داخل النص، فتلد الحكاية حكايات متداخلة، يعيشُ أبطالها ويموتون مسلوبي الإرادة. في رواية (رجل في الظلام) يكتب (بول أوستر) عن راوٍ يقاوم الأرق بكتابة قصة عن أمريكا التي تتمزق في حرب أهلية، في داخل الحكاية يستيقظ رجل بعيدًا عن مدينته وزوجته وبيته، فيجد نفسه في معمعة حرب لا يعلم كيف دخل إليها، ولصالح مَن يُقاتل؟ ثمة قوة أعلى تتحكم في مصيره، قوة الراوي الذي ابتكره. فهو مجرد شخصية تعيش في رأس شخصية أخرى تحبسه في كل هذا الدمار. لا يقف الاستلاب هُنا، إذ تنبثق في النص جماعة تأمر البطل بقتل الراوي لتنتهي الحرب، لا يستجيب فيصير مُطاردًا ومُهددًا بالقتل من قِبَل هذه الجماعة، حين يسأل لمَ هو تحديدًا من يتوجب عليه قتل الراوي؟ يكون الجواب: لأنك بطل القصة ولا يُمكن لغيرك أن يقوم بهذه المهمة.

تكشف الرواية عن أزمة الفرد الذي يخوض حروبًا لم يفتعلها، ويسير وفق مصير عبثي لم يقرره لذاته. فالذين يفتعلون الحروب هم آخر من يكتوي بنارها. وحين يتمرد البطل على دوره يموت فجأة في مهمته الأخيرة إذ تسقط عليه قذيفة لم تستغرق من الكاتب إلا سطرًا على ورق.

في (الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني تلد الحكاية حكايات أخرى. لكن بشكل مغاير، أبطال النصّ هم من يتحكم في مصير الراوي (سهل الجبلي) الذي يُفاجأ في أحد الصباحات بـ(مسعود الهمذاني) بطل روايته يزوره في مقر عمله بالبنك ليطلب قرضًا ضخمًا يمكنه من سداد الديّات وإنهاء الحرب التي افتعلها الرواي. يقول (سهل) متنصلًا من مسؤوليته: “كيف تتأكد من قدرتك على السداد، ومن يضمنك في هذا؟” ففواتير الحروب تُدفع دائمًا من معيشة ضحاياها، لكن أبطال الدميني يستغلون فراغات النص، ويؤولونه بطريقتهم، فيختطفون الكاتب، ويسجنونه في مغارة. يتناص السجن في رواية (سهل) مع السجن في واقعه، يتذكر أحلامه الماضية، والتنظيم الذي عمل لصالحه فانتهى سجينًا تختنق أحلامه في غرف التحقيق، يُفكّر في الرواية التي كتبها فصار أسيرًا لأبطالها. يتساءل عن آماله وأبطاله وعمله وحياته: “ما الذي يتبقى لي الآن؟ دفعتُ الثمن من عمري في الزنزانة الانفرادية، وحين قررتُ أن أكتب قصة عزّة لأصوغ شخصياتها وأحداثها حسب إرادتي اختطفني أبطال النص وأودعوني المغارات، وها هو مسعود يسرق قطيع الغنم لتكتمل إدانة البنك لي بتهمة تبديد أمواله أو تهمة الاختلاس” فقد دخل الراوي إلى عالم من ابتكاره لكنه عجز عن الخروج منه، أراد أن يُعبّر عن ذاته فأضاع ذاته في دهاليز الفكرة وتداعياتها، فأبطاله ينتفعون من غموض النصّ ويؤولونه لصالحهم، الغموض الذي خلّف فراغات اضطرارية لأن التعبير الصريح لا يُحرّر أحدًا في عوالم القمع، بل يحبس الناس في تداعياته. فيضيع (سهل) كشخص دخل  إلى عوالم أحلامه على سبيل الحقيقة لا المجاز، فصار حبيسًا في مدافنها.

عن الإبداع والتجريب والسخط والرضا

في مجلة العربي عدد يناير ٢٠٠٢ نشرَ جابر عصفور مقالًا عن أستاذته سهير القلماوي، التي بلغ امتنانه لها وتأثره بها أن سمّى ابنته على اسمها.

يحكي جابر عصفور في المقال عن مواقف أستاذته معه من جانبين: جانب أكاديمي، وجانب إنساني.

في الجانب الأكاديمي يكشف عن خطواته الأولى في طريق البحث العلمي، وتهيّبه من كتابة البحث، وثقته واندفاعه وقلّة خبرته. إذ سلّم أستاذته الفصل الأول وهو يشعر بالزهو والإنجاز الذي يشعر به الطالب المبتدئ الذي لم يدرك بعد مدى اتساع جهله. مزّقت أستاذته أوراق الفصل الأول وأعطته قائمة بمراجع ينبغي عليه قراءتها قبل أن يشرع في الكتابة مدفوعًا بحماسة البدايات، وثقة الجاهل، وأحكامه المسبقة.
بعد هذا الموقف انتابته الوسوسة حتى أصابته حُمّى التمزيق، وكلما توسّع في القراءة والإطّلاع شعر بإتساع مساحة جهله فتراجع عن ما كتب… حتى صارت أستاذته سهير تُخبّئ الفصل الذي ينتهي من كتابته في درج مكتبها وتُغلق عليه بالمفتاح وتطلب منه أن لا يستمر في البحث عن الكمال وأن يبدأ في كتابة الفصل الذي يليه وهكذا…
وظلّت عذابات الكتابة وإعادة الكتابة مرّات ومرّات تُلازم الطالب جابر عصفور حتى في مرحلة بحث الدكتوراه، وظلّت أستاذته ترفض أن تُعيد له الفصول التي ينتهي من كتابتها لتمنعه من إعادة الكتابة من جديد بحثًا عن شعور الرضا.
يقول: “حاولتُ إقناعها بأن أحتفظُ أنا بالفصلين فلم تقتنع، وحكتْ لي ملخص إحدى روايات الروائي الفرنسي إيميل زولا وهي عن رسّام شاب أراد أن يدخل المجد من أوسع أبوابه مرة واحدة بلوحة تُقيم الدُنيا ولا تُقعدها في معرض الفن الحديث. وحبسَ نفسه مع الموديل التي كانت تحبّه، وظلّ يرسم ويمحو ما يرسم وطال الوقت، بل مضى الوقت، وافتتح المعرض وهو لم يفرغ بعد، ومَنّى نفسه بالمعرض القادم، فالمهم أن يُنجز ما لم يُنجزه أحد من قبل، ومرّ معرض ثانٍ وثالث ورابع، واللوحة لا تكتمل، والرسام المسكين يدخل في دوامات الجنون تدريجيًا، إلى أن انتهى به الأمر إلى تمزيق اللوحة بسكين كشط الألوان، وتمزيق جسد حبيبته الموديل، ثمّ انتحاره بعد ذلك”
وعلّقت أستاذته على هذه القصة التي روتها بقولها: “لا يُمكن الوصول إلى الكمال، الكمال مثل أعلى نسعى إليه طوال العُمر. حسبنا أن نقوم في كل مرة بواجبنا حسب قدراتنا التي نصل بها إلى أقصى ما نستطيع من عملٍ وجهد. وكل مرّة ننجزُ فيها شيئًا نتعلّم من إنجازنا، ونقتربُ بهذا الإنجاز من الكمال الذي يتباعد عنّا بقدر اقترابنا منه. كأنّه يُريد أن يدفعنا إلى الصعود…”

عن الجانب الإنساني في علاقة الأستاذة بتلميذها يقول الدكتور جابر عن أستاذته: “اكتشفتُ في سهير القلماوي خلال ذلك الوقت أُمًّا حنونًا إلى جانب الأستاذة، فكانت أمّي التي ذهبتُ لأخذ موافقتها عندما قررتُ أن أخطب زميلتي التي أحببتها وأصبحتْ زوجتي وأمّ أولادي ورفيقة العمر إلى اليوم وشجعتني سهير القلماوي على أنْ أمضي فيما فعلت، بل قامت بدور الأمّ فعلًا وكانت كذلك في حفل الزفاف الصغير الذي أقمناه، بل كانت الأم التي تلقّت ابنتي الأولى التي أطلقنا عليها أنا وزوجتي اسم (سهير) وأصبحت أستاذة جامعية اليوم ولا تزال تذكّرنا بأستاذتنا التي ندينُ لها بالكثير”

….

لقراءة مقال جابر عصفور: هُنا

ماركيز والسينما

كان ماركيز شغوفًا بالسينما، مفتونًا بها منذ طفولته يتذكر في كتابه (قصص ضائعة) جيشان الفضول الطفوليّ الذي دفعه إلى أن يُطالب ككل الأطفال بالذهاب إلى ماوراء الشاشة لرؤية أحشاء هذا الاختراع المبهر، وكانت دهشته عظيمة حين لم يرَ شيئًا سوى الصورة ذاتها مقلوبة. لكنه لم يفقد شغفه وانبهاره. كبر ماركيز وسافر إلى روما ليتعلم أسرار المخرج الإيطالي (زافاتيني)، عاد بعدها إلى كولومبيا وكتب في النقد السينمائي مخالفًا رغبات دور العرض التي كانت تفرض على الصحف أن تكتب نقدًا مهادنًا وإلا ستسحب إعلاناتها، كسب ماركيز المعركة فكتب نقدًا صادقًا رفضته دور العرض في البداية ثم رضيت به وتقبلته. فيما بعد اتّجَه ماركيز نحو المكسيك يدفعه شغفه بالسينما إلى محاولة المساهمة في صناعتها، فحاول أن يكون مخرج أفلام، لكنّه اكتشف أن اختلاق العوالم في السينما أصعب من اختلاقها في الأدب، يقول: “أدركت أن هناك حدودًا في القالب السينمائي لا توجد في الأدب، وأصبحت مقتنعًا أن عمل الروائي هو أكثر عمل حُرّ على وجه الأرض فأنت هنا سيد نفسك تمامًا”
ولذا صرف النظر عن العمل كمخرج وبدأ في كتابة سيناريوهات لأفلام قال إنه لم يتعرف عليها حين شاهدها على شاشة العرض بعد ذلك. عن تلك التجربة يحكي ماركيز قائلًا: “وحتى بعد أن كتبت سيناريوهات لم أكن أتعرف عليها فيما بعد على الشاشة، بقيتُ على قناعتي بأن السينما ستكون صمّام الأمان الذي سأفلتُ منه أشباحي، وقد تأخرتُ زمنًا طويلًا للتوصل إلى القناعة بأنّ الأمر لن يكون كذلك. وفي صباح يوم من أيام تشرين الأول ١٩٦٥م وكنتُ مُرهقًا من رؤية نفسي وعدم التعرف عليها جلستُ مقابل الآلة الكاتبة، مثلما كنت أفعل كل يوم، ولكنني لم أنهض في تلك المرة إلا بعد ثمانية عشر شهرًا ومعي الأصول الناجزة ل(مئة عام من العزلة) فأدركت أثناء ذلك العبور للصحراء أنه ليس هنالك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لابتداع العالم”
بعد هذه التجارب لخّص ماركيز علاقته بالسينما قائلًا: “علاقة زواج غير موفق. بمعنى أنني غير قادر على العيش دون السينما وغير قادر على العيش معها”

في رواية (مئة عام من العزلة) التي كتبها ماركيز حين كان يحاول كتابة سيناريوهات أفلام تظلّ شبيهة بذاتها حين تخرج من حيّز الورق إلى حيّز الصورة، يحكي ماركيز حدثًا لا يُنسى يتعلق بالسينما، حين بدأت الاختراعات تتوافد على قرية (ماكوندو) وتُبهر الأهالي بسحرها حتى صاروا لا يعرفون من أين تبدأ الدهشة. كانت (السينما) إحدى هذه الاختراعات التي فتنتهم بسحرها، انبهروا بالحياة الموازية التي انعكست فيها، فدفعوا أموالًا لشراء التذاكر كي يشاطروا أبطال الأفلام معاناتهم، في أحد الأفلام شاهدوا رجلًا يموتُ ويُدفن فبكوا عليه وتأثروا بمعاناته، لكنهم شاهدوا الرجل الميت يظهر في فيلم آخر وقد عاد إلى الحياة وكأنه لم يمت وكأنهم لم يبكوه من قبل، شعروا بمرارة الخديعة التي تعرضوا لها، عبّروا عن سخطهم بتكسير المقاعد… فاضطر العمدة أن يقدّم لهم إيضاحًا شرحَ فيه أن السينما ليست حقيقية بل آلة وهم. وحيال هذا الإيضاح المخيّب للآمال قرّر الأهالي الامتناع عن الذهاب إلى السينما فلديهم مايكفي من الأحزان ولا حاجة بهم لأن يبكوا نكبات مصطنعة لكائنات وهمية. اكتفاء أهالي (ماكوندو) بحياتهم وأحزانهم الحقيقية يتقاطع مع اكتفاء ماركيز بعوالمه السردية التي يعرفها جيدًا حين يبتدعها على الورق، لكنّه يُنكرها حين تتنازعها أيدي الممثلين والمخرجين والمنتجين… تمامًا كما أنكر أهالي القرية وجه فقيدهم، الممثل الذي بدّد حزنهم بين أكثر من فيلم وأكثر من حكاية.

صورة جماعية لشخص وحيد

ذاك العاديّ المُكرر، ذو النسخ المتعددة والمتاحة، الواحد المضاعف في ملايين، الواحد الذي يساوي لا أحد، المعروف بأسماء حركيّة كثيرة تدلّ عليه وتحشر معه كثيرين غيره؛ كالعامة، السوقة، الرعاع، الأكثرية، الرأي العام، المجتمع، المواطنين، الحشد…

الذي يخرج كل صباح يرعى قطعان همومه، ولا يعرف أنّ الذين سرّحوا همومهم واستظلوا الراحة يصنفونه ضمن القطيع.

المُدرج ضمن قصائد لا يعرفها، لأنّ القصائد لا تعرف اسمه، فتستعير صوته المنسي، وتستدل عليه بمكابداته.

ذاك الذي لا يدخل في إحصائيات مرضى الاكتئاب، لأنّه يركض طوال اليوم، ولا يملك ترف الوقوف لوصف السواد، فضلًا عن ترف الجلوس على كرسي عيادة الطب النفسي، هو الذي بالكاد يسترق من وقته وقتًا ليصطف في طابور صرف أدوية السكر والضغط في المستوصف الحكومي البغيض.

الذي يأكل بنهم حين تعدّ زوجته الطعام، ويقبض يده ويشحُّ على نفسه حين يشتري لأولاده الطعام، حتى لا يحاصصهم في اشتهاءاتهم.

الذي يقرأ الصحيفة من الخلف، لأنّه لا يعرف انتصارات غير انتصارات فريقه الرياضي، ويقرأ الصحيفة من الأمام إذا تواترت الأنباء والإشاعات عن معونة حكومية قادمة.

يُعيد تدوير النكات التي تصل إلى هاتفه عشرات المرات في عشرات المحادثات، فالضحك مازال مجانيًا، وإن حاولوا فوترته.

الذي يُرمز إليه برقم سجل مدني، ورقم وظيفي، ورقم إحصائي، ونسبة مئوية، ولا يُكتب اسمه بحبرٍ رسمي إلا في رؤوس أوراق الفواتير.

الذي لم يتحقق بعد من المعلومة الموروثة التي تقول: (للجدران أذان) لأنّه لم يختبرها ولم يجرّب صوته أصلًا.

الذي لا يعنيه من بث الخطابات الرسمية إلا نهاياتها التي تعلن عن بدء برامجه المفضلة، ولا يعنيه من إعلان الموازنة العامة إلا الدين العام الذي يستدينه الخاصة ويسدده العوام.

الذي يُتابع نشرات الأخبار ليبني رأيه السياسي وفق ما يقوله المتحدث الرسميّ، ويتابع إحصائيات الدمار ومشاهد الحرب من خلف الشاشة، فيظنّها ستظل هناك نائية إلى الأبد ولن تصل إليه… وحين يقتطع المحاربون جزءًا من دخله لإنعاش الحرب، فتتعالى عليه الأسعار، وتتمادى الفواتير… ينظر إلى الآخرين البعيدين الذين ينزفون خلف الشاشة، فيرضى، ظنًا منه أن النزيف سيظلّ هناك ناءٍ إلى الأبد، ولن يصل إليه. دون أن ينتبه لحرب الاستنزاف التي يخوضها منذ أن وُلِد. يخوضها دون أن ينتصر، دون أن ينهزم، دون أن ينسحب… يخوضها حتى ينضب تمامًا، تمامًا…

ذاكرة متوفاه دماغيًا تتنفس عبر الأجهزة

فيما كنتُ أقرأ للمرة الثانية رسائل حمزة شحاتة إلى ابنته شيرين كنتُ أكابد الغصّات، وأتذكر المرة الأولى التي طالعت فيها الكتاب قبل أكثر من عشر سنوات بعد أن استعرته من مكتبة جمعية أم القرى الخيرية حيث كنت أدرس الخياطة والتفصيل مساءً بعد دوامي الصباحي في الجامعة. يرتبط كتاب الرسائل هذا بوجه أمينة المكتبة المألوف، ما زلت أتذكّر ملامحها ولون شعرها ومظهرها العام وطول قامتها لكنّي نسيت اسمها، يرتبط الكتاب أيضا بملمس الأقمشة الأوراجنز والدانتيل والبطانة الحريرية وقسوة الساتان ونعومة ملمسه وكل الأقمشة التي كنت أراكمها كما أراكم عملي دائمًا، فكل الأشياء التي أحبها ثم أدرسها أكرهها، أكره انتقالها من دائرة الهوايات إلى مربع الواجبات… رسائل حمزة شحاتة إلى شيرين تذكرني بالأيام الأولى للمسنجر، بوقت الاستراحة الذي أقضيه في المكتبة الملحقة بالجمعية، أستعير الكتب وأتصفح الإنترنت بنظام الدقائق المدفوعة. وقد كانت أمينة المكتبة تشرح لبعض الزائرات كيفية التواصل مع أقربائهم البعيدين عبر المسنجر.

كم اسم مستخدم امتلكت من يومها إلى اليوم؟
كم رسالة وصلتني؟
كم عدد الكلمات التي اهتدت إليّ بلا ساعي بريد ولا طابع ولا عنوان شارع ولا رقم بناية؟
كثير كثير…

كم بقي من كل هذا؟
لا شيء.

ولذا كلما قرأت رسائل حمزة شحاتة إلى ابنته شيرين أكابد الغصّات، أشعر أننا جيل منتجته التقنية حتى صرنا بلا ذاكرة، حولنا وبأيدينا ألف طريقة للحفظ والاسترجاع والنسخ الاحتياطي، لكن هذه الخيارات العديدة لا تخدم الذاكرة، لا تخدم ذاكرتنا، إنها تعلمها التواكل ثم تغدر بها وتشتتها، ذاكرة تسجّل كل شيء أولًا بأول، مع خاصية التدمير الذاتي، التحديث، المحو، إعادة التهيئة… الخ

في سياق الكتب والرسائل يستدعي ذهني كتابًا قرأته في بدء مراهقتي وأعدت قراءته مرات ومرات، الكتاب لأنيس منصور وعنوانه: (غرباء في كل عصر) عثرتُ عليه صدفة في بيتنا القرويّ ولا أعرف حتى الآن صاحب أو صاحبة الكتاب قبل أن يصل إلى يدي، فقد استوليت عليه، ومع الأسف فقدته منذ سنين. ربما أكون قد أعرته لرفيقة من رفيقات الدراسة اللاتي طوت الأيام حضورهن… أتذكّر بوضوح مقال جميل في الكتاب يتحدث فيه أنيس منصور عن موهبة كتابة الرسائل الطويلة، الرسائل التي تقول كل شيء وتبدو وكأنها نبش في الروح، تنقيب في الأعماق… وقد كنتُ آنذاك شغوفة بكتابة الرسائل الطويلة، وأحب أن تصلني رسائل من صديقاتي… في تلك الأيام، وفي العطل المدرسية كنت أتبادل مع صديقاتي رسائل طويلة نكتب فيها كل شيء، لم يكن يكفينا ورق الرسائل فصرنا نستخدم الدفاتر لتحتضن الكلام الطويل الذي نقوله في الإجازات الطويلة، وبعودة الدراسة نتبادل الدفاتر فنقرأها وكأننا عشنا العطلات سويًا. كان هذا قبل زمن الجوّال، في زمن مكالمات الهاتف الثابت التي يعترض الأهل على طولها… كنت أتكلم هاتفيًا مع صديقاتي بشكل متقطع وخلسة إذعانًا لتوبيخ الأهل… ولم يستوعبنا حينذاك شيء غير الرسائل.

يقول أنيس منصور في الكتاب إنه حاول محاولات متكررة كتابة رسائل طويلة، لكنه ما أن ينتهي منها حتى يحذف البداية التي تقول: إلى فلان. وبهذا تتحول الرسالة إلى مقالة… فينشرها على الصحف بدلًا من إرسالها للشخص المعني.

أحيانًا أشعر بحاجة ماسة إلى كتابة رسالة طويلة، رسالة تقول كل شيء، رسالة أودعها أفكاري دون ترتيب فيساعدني هذا على ترتيب فوضاي، رسالة تُمكنني من البوح بما يحتشد فيّ… وأشعر أيضا أني بحاجة إلى تلقي رسالة طويلة بجُمل مطنبة وشروحات مُفصّلة وحكايات عابرة وأسرار صغيرة، أحلم برسالة تتضمن اسمي بين سطر وسطر، تعتمد حروف النداء وتتيقن من الإجابة… فالرسائل أعذب ما امتلكت في عمري الذي مضى، وأكثر ما فقدت في عمري الحالي، فقد فرض علينا الإنترنت ماراثون الركض بين نوافذ المحادثات، وبذاكرة قصيرة المدى، تتشتت في القفزات السريعة بين المواقع وبرامج التواصل التي يحل أحدها محل الآخر بسرعة فيمحوه…

ضمن مقالات هذا الكتاب مقال نسيتُ عنوانه ومضمونه وبقيَ في ذاكرتي منه فقرة عصيّة على النسيان يقول فيها أنيس منصور: “الحب الحقيقي كالورد الطبيعي، حيّ وقصير العمر” وأُضيف لما قاله: كذلك الصداقات الجميلة التي خلّدتها الرسائل، ومحت الأيام وجوه أصحابها، ظلّت على قيد الحياة رغم قصر عمرها، وكأنها ورد مجفف يحتفظ بذاكرة ازدهار عمري الذي مضى.