
وصلتني هذه الرسالة في وقت أشعر فيه -للأسف- بحالة مشابهة، حالة من النضوب والفقر الكتابيّ… أحاول أن أقول لنفسي إنها إجازة، لكن الإجازة عن الكتابة -عندي- لا متعة فيها، بل تشبه الإجازات المَرضية؛ مرض نضوب الفكرة، برود القلب، الانقياد لرتابة الوقت، غفلة الروح، انطفاء الذات، والاعتياد الأعمى وجمود الشعور…
أحاول مواساة نفسي باسترجاع رأي الإيطالي تشارلز بافيزي الذي يقول إن حبسة الكاتب ليست أمرًا سلبيًا على الدوام، قد يكون لها دور فنّي، مثل إسدال الستار في المسرح بين مشهدين.
وبالرغم من ارتهاني (لمزاجي) في الكتابة وفي كل أعمالي، أقدّر جدًا أولئك الذين يؤمنون بالدأب والعمل لا بالإلهام والمزاج.
امبرتو إيكو يرفض الاحتكام إلى الإلهام، يقول إنها كلمة سيئة، قد تمنح 10% أمّا الـ90% المتبقية فمصدرها الجهد الفردي.
جاك لندن يقول: “لا يمكنك أن تنتظر الإلهام، عليك أن تطارده بهراوة”
وأحبّ جدًا تعبير أورهان باموك حين يُلخص تجربته قائلًا: إنّ سر الكتابة ليس في الإلهام الذي لا يعرف أحد من أين يُمكن أن يأتي، بل في العناد والصبر، التعبير التركي الجميل: (أن تحفر بئرًا بإبرة)
الروسي مكسيم غوركي في شهادته (كيف تعلمتُ الكتابة) يُلامس مشكلة نضوب الموضوع/ نضوب الكتابة من خلال رسالتين متعارضتين: الأولى من قارئة صغيرة تعتقد أنها تحظى بالموهبة، لكنّ واقعها فقير وشاق، خالٍ من التجارب، فماذا يُمكن أن تكتب وهي تعيش الفقر المدقع؟ يجيب غوركي باستدعاء الثراء الأدبي الذي تركته الشعوب البدائية البسيطة التي لم تُنتج أدبًا مكتوبًا لكنها أغنت حيواتها الفقيرة بالأغاني والحكايات والأساطير.
الرسالة الثانية من شاب عامل يكتب شاكيًا من الحياة، ليس من فقرها، بل من غناها بالتجارب والمواقف، هذا الثراء المحيّر الذي يتطلب قدرة على الخلق والانتقاء… يقول غوركي مجيبًا على هذه الرسالة التي تتقاطع مع تجربته الكتابية: “لأنه تكوّنت لديّ انطباعات كثيرة، لم أستطع إلا أن أكتب” فتجربته الأدبية تقول إنّ شحّ الحياة وثراءها لا يتحكمان في عطاء المبدع.
الكولومبي ماركيز الكاتب المثابر عانى أيضا من فترات التذبذب، وكتب ملاحظات كثيرة عن الفترة التي قضاها في برشلونة وأراد صياغة مجموعة قصصية من هذه الملاحظات، لكنه ألقى بها للنسيان. بعد ربع قرن أراد صياغتها فلم يجد المخطوط، وإعادة كتابة مخطوط مفقود اعتمادًا على الذاكرة قد تكون أصعب من الشروع في عمل جديد، لكن الكاتب العنيد وصف حالته تلك قائلًا إنها كانت (قضية شرف) فبدأ في استعادتها بجهد من الذاكرة. يعرف ماركيز علّة النضوب، ويعالجها بالدأب، يقول: أفقد مرونة الكتابة في الاستراحة بين كتابين، وأجد مشقة أكبر فأكبر في البدء من جديد. ولهذا فرضتُ على نفسي مهمة كتابة مقالة صحفية أسبوعية كنظام انضباطي للحفاظ على سخونة يدي.
هذه حيلة جيدة، تجاهل شح الكتابة الإبداعية، والمضي إلى ثراء البحث لكتابة مقال يعتمد على الجمع والاستقراء والصياغة، لا على الإبداع والخلق.
وهذا يعني أن الركود يصيب أعظم المبدعين،لكن علاج الركود لا يستعصي على المبدع، فإن كانت تفاصيل الطريق غامضة، وخارطة الوصول مخاتلة… فخبرات الذين تجاوزوا عثرة الطريق مطروحة لنا في الطريق.
